لغز آفة التهرب الضريبي في تونس!

لن نأتي بجديد إن قلنا إن ملف الضرائب في تونس على حاله. فلم يتغير شيء له أثر يذكر منذ عام 2011. وربما لن يتغير شيء حتى بعد سنوات. هكذا نستقي المؤشرات. ليس من الكلام الانطباعي للمسؤولين، وإنما بالأرقام لأنها اللغة الأكثر قربا للواقع.
سمعنا الكثير عن إصلاح منظومة الجباية، لكن الجدل لم يتوقف بشأن حاجة الدولة إلى تعزيز إيراداتها لسد جزء من عجز الميزانية بوضع حدّ للتهرب الضريبي الذي يكبّد الخزينة خسائر ضخمة كل عام في ظل ضغوط داخلية وخارجية لاعتماد إصلاحات ذات جدوى.
يكفي أن نربط لجوء الدولة للمانحين الدوليين في كل مرة تختنق فيها المالية العمومية، وآخرها انتزاع موافقة صندوق النقد الدولي لاقتراض ملياري دولار، بغض النظر عن العوامل الخارجية التي قد تؤثر على الاقتصاد، بعجز المسؤولين عن فك لغز آفة التهرب الضريبي المستمرة حتى نعرف أن الحكومات المتعاقبة لأكثر من عقد لم تُفعّل ما تعهدت به.
اللافت أن لدى الدولة ترسانة من القوانين فيما يتعلق بالجباية تبدو في الظاهر قوية وتبنى على العدالة الجبائية والمساواة الاجتماعية. والأهم أنها تبدو أحد الأسلحة المهمة كونها تسهم بنحو 60 في المئة من الميزانية، ولكن في الواقع تعجز الحكومة وأجهزتها عن تحصيل الأموال من دافعي الضرائب.
الضغط الجبائي الذي يعد الأعلى بين الدول العربية وضعف الأجهزة الرقابية وفوضى السوق الموازية والتهريب أسباب جوهرية لعجز الدولة عن تحصيل أموال قد تغني عن اللجوء إلى الاقتراض الخارجي في كل مرة تختنق فيها المالية العمومية
السبب الرئيسي ليس التقصير الإداري أو قصور التشريعات أو نتيجة متاهة الإجراءات المعقدة، مع أنها من بين الأسباب، وإنما جراء الضغط الضريبي الهائل والذي أشارت إليه تقييمات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث تصنف تونس في صدارة الدول العربية فيما يتعلق بالأعباء الجبائية إلى جانب الجزائر وموريتانيا وجيبوتي.
لا تكاد تمر فترة إلا ونسمع اجترار أسطوانة الإصلاح الضريبي من قبل المسؤولين. وعندما ننظر إلى النتائج نتأكد يقينا أن المنظومة الجبائية تشكو من نقائص لا حصر لها، بما في ذلك التشعب الإداري البيروقراطي. ذلك أنه تم اتخاذ أكثر من 600 إجراء جبائي جديد خلال 11 عاما. وهذا لا يعقد مهمة جمع أموال الضرائب فحسب، بل يكبل مناخ الأعمال الطارد أصلا للمستثمرين.
يتحمل عبء الجباية عدد محدود من الشركات، بينما يظل عدد آخر خارج دائرة الالتزام الضريبي، بمن فيهم أصحاب المهن الحرة مثل المحامين والأطباء وحتى القطاع الرياضي، إمّا بسبب التلاعب في المعطيات، بمعنى عدم التصريح الحقيقي برقم الأعمال والأرباح، أو عدم الالتزام بالقانون.
بشكل عام، الموظفون هم الذين يتحمّلون الخصم من الموارد بقوة القانون باعتبار أن المؤجر يخصم آليا من الراتب الشهري لدفعه إلى خزانة الدولة. والإحصائيات الحكومية تؤكد أن المداخيل المتأتية من الأفراد تشكل أكثر من 70 في المئة من حصيلة الضرائب السنوية الإجمالية للدولة.
المعنيون هنا، وفق التقديرات، هم نحو 700 ألف موظف في القطاع العام وقرابة 1.5 مليون موظف في القطاع الخاص. وتجني الدولة منهم أكثر من 7 مليارات دينار (2.2 مليار دولار) سنويا. في المقابل، يضيع قرابة 50 في المئة من دخل الضريبة بسبب الأنشطة في السوق الموازية والتهريب، وأيضا بعض الشركات، التي يتلاعب المسؤولون الماليون فيها بالكشوفات الحقيقية.
ولإعطاء مثال أكثر دقة على ذلك، فقد توصل تحقيق قضائي قبل ست سنوات إلى أن أكثر من 120 شركة تورطت في إغراق السوق المحلية بالبضائع المهرّبة. وأشار المحققون حينها إلى أن ذلك ضيّع على الدولة تحصيل قرابة 740 مليون دولار كان يفترض أن تدخل الخزينة العامة.
ما يعزّز هذا الموقف، ما أكده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تقرير أصدره الصيف الماضي، حين نشر أرقاما صادمة أظهرت أن التهرب الجبائي يشكل تقريبا نصف قيمة موارد الميزانية التي تبلغ في المتوسط 17.5 مليار دولار، أي ما يعادل أقل بقليل من نصف الناتج الإجمالي المحلي، والذي يبلغ 40 مليار دولار.
ثمة عوامل أخرى يبدو أن الحكومة الحالية مجبرة على الإسراع في اتباعها، وهي تبسيط الإجراءات المتعلقة بالتصريح على الضريبة عبر رقمنة التعاملات
هذه المعطيات تنسجم مع مطالب المؤسسات المالية الدولية التي دأبت على مطالبة صنّاع القرار في تونس تقييم الأعباء الضريبية بشكل دوري وتأثيرها على الاستثمار ومدى تناسقها مع الإيرادات الضريبية للوقوف على قدرة المنظومة الجبائية على تحقيق أهدافها الكلية.
مشكلة تطبيق القانون خاصة ضد المتهربين ضريبيا لا يمكن حلها إلا بتعزيز المراقبة، ولذا من الضروري حشد جميع الموارد البشرية واللوجستية والمعلوماتية لمواجهة المشكلة لتعزيز موارد الدولة الضعيفة، وفي الوقت نفسه الابتعاد أكثر عن الديون.
عند النظر إلى الأرقام التي أشارت إليها تقارير رسمية بما فيها تقرير دائرة المحاسبات في 2019 نجد أن إدارة الجباية التابعة لوزارة المالية لديها 1600 مراقب ربعهم فقط يقوم بعمليات معاينة ميدانية. وهذا لا يشتّت جهود الدولة فحسب، وإنما يظهر عدم مبالاة الأجهزة المعنية.
وكدليل آخر على قصور عمل الحكومة وتقاعسها، ولا نوجه الانتقاد هنا إلى حكومة نجلاء بودن فقط، بل لكل الحكومات السابقة، هو أنها لا تقوم بالتشهير بالمتهربين ضريبيا، كما يقتضيه القانون، لأسباب غير معلومة. فخطوة كهذه قد يكون له تأثير كبير مع الوقت.
ثمة عوامل أخرى يبدو أن الحكومة الحالية مجبرة على الإسراع في اتباعها، وهي تبسيط الإجراءات المتعلقة بالتصريح على الضريبة عبر رقمنة التعاملات للابتعاد عن التعامل المباشر مع الإدارة لتكريس الشفافية والحدّ من ممارسات الفساد التي تنخر الاقتصاد.