كيف ينهض العرب: سؤال لم يتخطاه الفكر العربي

الكثير من المشاريع الفكرية النهضوية صورية وقابلة للتفكك والتصفية، بالرغم من تماسكها واتّساقها الظاهري مع ذاتها.
الثلاثاء 2021/02/16
الفكر العربي لم يسهم في بناء واقع أفضل (لوحة للفنان ضياء العزاوي)

لقد تصدى الكثير من المفكرين العرب مطلع القرن العشرين لبناء مشروع حضاري عربي، يلحق العرب إلى ركب الأمم المتقدمة، فأعاد هؤلاء صياغة الكثير من المعطيات الثقافية والدينية والعلمية والفلسفية والتاريخية وغيرها في سبيل هذا المشروع النهضوي، لكنه فشل رغم كل الجهود المبذولة، وكأن بذرة نكوصه كامنة في عمقه.

ضمن نشاطات ملتقى الثلاثاء الذي يديره أستاذ الفلسفة الدكتور أحمد ماضي في عمّان، ألقى الباحث في مركز الدراسات المستقبلية بجامعة فيلادلفيا، ورئيس جمعية النقاد الأردنيين الدكتور زهير توفيق مؤخرا محاضرة بعنوان “الخطاب القومي في عصر النهضة العربية”، تناول فيها بالنقد والتفكيك مشروعي اثنين من رواد النهضة اللبنانيين: الليبرالي العلماني نجيب عازوري، والقومي اليساري عمر فاخوري.

استهل الباحث محاضرته بقوله “إن الخطاب القومي الليبرالي يمثل نموذجا للخطاب النهضوي المتناقض الذي يفتقر إلى الكفاءة المعرفية، التي تؤهله ليكون نموذجا إرشاديا للتفكير بالنهضة في القرن الحادي والعشرين، وما ينطبق على هذا الخطاب ينطبق على الخطابات كلها: السلفي، والليبرالي، والماركسي.

ويُعدّ مشروعا عازوري وفاخوري نموذجين لهذا الخطاب المتناقض، والذي احتُفل به كثيرا في الفكر العربي الحديث والمعاصر، دون التدقيق بطبيعة الخطاب وأبعاده ومرجعياته وتناقضاته، ومن ثم المسكوت عنه فيه.

الوقوف مع الاستعمار

قراءات في الفكر العربي المعاصر
قراءات في الفكر العربي المعاصر

أكد الباحث توفيق أن مؤرخي الفكر العربي الحديث والحركة القومية بالغوا في تقدير دور نجيب عازوري التحرري في النهضة العربية، وخطابها القومي العلماني مطلع القرن العشرين، وحقيقة الأمر أن ما تردد من أحكام إيجابية بحقّ عازوري ومواقفه ونشاطه القومي نابع بالأساس من النقل والتناص المتبادلين بين الباحثين.

وفي رأي الباحث فإن خطاب عازوري، بتناقضاته وتجاوزاته المعرفية والتاريخية، يمثّل صورة نموذجية للخطاب النهضوي المتناقض القابل للتصفية والتفكك من تلقاء ذاته، ولا يُراهن عليه لا في الفكر القومي ولا في بناء مشروع نهضوي أو حضاري عربي في المستقبل، فلم يكن على استعداد في مطلع القرن العشرين، وقد اتّضحت الأطماع الاستعمارية لدول أوروبا الغربية والشرقية أن يغير نهجه ورؤيته السياسية.

وظلّ عازوري على موقفه الواثق ثقة مطلقة بالإمبرياليات الغربية، وخاصة فرنسا على نصرة العرب وتحقيق أحلامهم؛ متصورا أو متوهما أن فرنسا وغيرها من الدول الغربية جمعيات خيرية هدفها التبشير بالقيم الحضارية ومساعدة المحتاجين، ولا يعير، أو لا يريد أن يعير في خطابه أدنى اعتبار لأهمية وأولوية المصالح في العلاقات الدولية على القيم والمثل المجردة.

ويرى المفكر أنّ فرنسا كما يقول في كتابه الأهم، والمعتمد في قراءات الفكر العربي المعاصر “يقظة الأمة العربية” هي رسول الفكر الحرّ ومملكة الحرية المطلقة، والأمة الفرنسية بجوهرها هي أمة الفروسية، وهي الدولة التي تتفوق على الدول الأوروبية بتقديم المساعدة الأسخى والأكثر عفوية للمظلومين والتعساء، وهي الدولة المتفانية أبدا في نشر المسيحية والكثلكة والديمقراطية، علما أن فرنسا في عهده كانت جمهورية علمانية فصلت الدين عن الدولة رسميا بطريقة حديّة وحاسمة بنص الدستور الفرنسي سنة 1905.

ولم يكن موقف عازوري المثالي المفارق للواقع دلالة جهل أو قصر نظر، حسب رأي توفيق، بل كان تواطؤا وتماهيا مع المشروع الاستعماري الغربي، والدليل على ذلك إدانته للمقاومة والمعارضة الوطنية في مصر والجزائر.

نموذج مثالي للمشاريع النهضوية الصورية القابلة للتفكك
نموذج مثالي للمشاريع النهضوية الصورية القابلة للتفكك 

وأكثر من ذلك فهو يلوم ويتأسف لعدم مشاركة فرنسا في احتلال مصر مع بريطانيا، وكأن السياسة الدولية الكولونيالية مجرد رغبة أو نزوة عابرة لتلك الجمعية الخيرية. وفي معرض تعداد مآثر فرنسا في الجزائر، يقول عازوري إنها “غزت الجزائر لا من أجل إقامة مستعمرة إنتاجية لها فيها فحسب، بل وفوق ذلك من أجل تحرير المتوسط من القرصنة البربرية التي كانت تشله وتهدد التجارة الدولية.. إن الخدمات التي لا تحصى والتي أدّتها على مرّ الأزمان لقضية الحضارة تعطيها الحقّ في أن تتمتع بمحبة كل الشرقيين وجميلهم دون تمييز في العرق والدين”.

أما تونس، التي انتكبت بالاستعمار في الفترة نفسها التي انتكبت بها مصر، فليس لها أثر أو حظ لذكرها في خطاب عازوري، والسبب عدم الاعتراف بعروبة تلك البلدان (مصر وشمال أفريقيا)، وإخراجها من المملكة العربية التي يحلم بإقامتها في آسيا.

ويتطابق عازوري، كما ذهب توفيق، مع مفكري الاستعمار بضرورة تصدير الأزمة الداخلية إلى الخارج بدلا من حلّها حلّا حقيقيا في الداخل، إمّا بشن حرب، أو باحتلال أرض، وكلاهما يشيطن الآخر لتسويغ التعسف، فيوحّد المشاعر القومية، ويضعف التوترات الاجتماعية، إمّا بحرب على الدولة العثمانية التي انسلخ عنها وتمنّى سقوطها، أو باحتلال واستعمار أطراه وتمنى تعميمه من النموذج الفرنسي بالجزائر والإنجليزي في مصر، بل حوّل أوهامه بمنهجه الرغائبي إلى حقائق، فدلّل على مقولته باستجداء أهل فلسطين والشام للإنجليز بضرورة احتلال بلادهم أسوة بمصر!

ومارس عازوري تحت ضغط الأحداث، الرغبات المكبوتة في لا وعيه الديني، فانقلب من قومي علماني إلى مسيحي كاثوليكي، يدافع عن فرنسا الكاثوليكية، وعن دورها وسياستها الدينية في حماية الإرساليات المسيحية في الشرق، ويحلل أوضاع الكنيسة والبطريركية اليونانية المضطهدة للأرثوذكس العرب وبقية الطوائف المسيحية التي تشكل أساس رصيد فرنسا من محبّة الشرقيين، لكن محبته للشرق تنقلب خشية على الكثلكة والنفوذ المسيحي الفرنسي فيه، فيرجو فرنسا ويلحّ عليها الاستعجال باحتلال المشرق العربي لقطع الطريق على البروتستانت.

ووصل الشطط عند عازوري حدّه الأقصى في استعراضه فوائد الاستعمار. فدولة الاحتلال تثري الدولة المحتلة باستثمار ثروات البلاد الطبيعية، ولهذا يتمتع حسب قوله الإنجليز بحرية تامة في العمل، بسبب الجهل والتأخر والفقر، المنتشر بين المصريين، وكأن الآفات الثلاث معطيات قبلية طبيعية متأصلة فيهم.

مشروع عمر فاخوري

الباحث زهير توفيق يفكك مشروعي نجيب عازوري وعمر فاخوري
الباحث زهير توفيق يفكك مشروعي نجيب عازوري وعمر فاخوري

في قراءته لكتاب عمر فاخوري “كيف ينهض العرب“ يستنتج الباحث توفيق أنه يمثل نموذجا مثاليا للمشاريع النهضوية الصورية القابلة للتفكك والتصفية، بالرغم من تماسكها واتّساقها الظاهري مع ذاتها، ويرتبط تفكيكها بتفكيك القراءات المعاصرة التي طابقت برؤيتها رؤية الكتاب والمؤلف، وإن اختلفت في المنهج بحكم التاريخ والتطور المنهجي.

ويرى توفيق أن مادة “كيف ينهض العرب” لا ترقى إلى مستوى الكتاب أو المؤلف الأصيل الفاعل والمؤثر في عصر النهضة وفكرها، كما توحي القراءات المعاصرة للباحثين المعاصرين السابقين وغيرهم الذين احتفوا بفاخوري، بل هو نصّ لا يتجاوز الأربعين صفحة، وقد سمّاه فاخوري نفسه بالرسالة (نشرها سنة 1913 في بيروت)، لكن السلطة العثمانية تصدت للكتاب، ولاحقت مؤلفه الفتى عمر فاخوري البالغ ثمانية عشر عاما! وهذا ما أغفله الباحثون المعاصرون، إلا بعضهم، للتأكيد على نباهة الفتى ونضوجه القومي المبكر!

أمّا متن الكتاب فيتحدث عن نفسه، فهو بالأساس نصوص منقولة ومعربة عن الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون، إضافة إلى بعض الفقرات المعربة من ديمولان، ومفكر الحركة الصهيونية ماكس نوردو. ويعترف المؤلف بأن رسالته مجرد جمع وتعريب أكثر من كونها وضعا وتصنيفا، لاستباق أي نقد حقيقي أو لإبراء ذمته من خطر الملاحقة السياسية والأمنية، أو النقد المعرفي المتوقع لأفكاره. فاحتمى كعادة المفكرين النهضويين العرب خلف شخصية فكرية كبيرة لإبراء ذمته ومسؤوليته كونه مجرد ناقل أفكار لا أكثر ولا أقل.

وتتمثل الفكرة الأساسية لرسالة فاخوري بالسؤال النهضوي: كيف ينهض العرب؟ وفي معرض ردّه على هذا السؤال الكبير، الذي يتطلب استجابة ومقاربة كلية، يشير أولا إلى الأجوبة الأحادية الجاهزة والمتداولة، كنشر العلم والإدارة المركزية، فيرفضها كلها لقصورها وفشلها ما دامت منفصلة عن الغاية الكمالية، ويقصد بها المبدأ الكلي أو الأيديولوجيا الكلية الناظمة للإصلاحات والخطط الإجرائية، وينتقل من التنويه بالغاية الكمالية المشتركة بين المفكرين العرب إلى التساؤل عن مضمونها، فيحددها بالجنسية أو العنصرية أو المبدأ العربي، ويقصد بها جميعا القومية العربية.

أزمة الخطاب النهضوي عند المفكرين عازوري وفاخوري أن مرجعياتهما مضادة للنهوض العربي بالمطلق بينما تدعي العكس

وبغض النظر عن الهوية الملتبسة للنص بين فاخوري وغوستاف لوبون، فإنّ اللغة والمصطلحات الوضعية الرائجة في الكتاب (الرسالة) تعكس، من وجهة نظر الباحث، مناخ العصر الأوروبي المشبّع بالوضعية، أي أنها لغة لوبون الخاصة التي يتمثلها فاخوري دون إدراك أبعادها التاريخية، وما يصبو إليه من الغاية الكمالية هو ما يريده لوبون من تحويل القومية إلى ديانة تذكّر برغبة أوغست كونت بتحويل العلم إلى ديانة وضعية.

وفي وصفه لطرائق النهضة والتغيير يشير فاخوري إلى التدرج والوسائل السلمية والابتعاد عن الطفرة والتغيير المفاجئ، والتوفيق بين المتناقضات، والسلوك الوسطي، والرهان على المبدأ الفكري وأخلاق الأمة، ولا تطابق تلك الأفكار إلا مسلمات الاتجاه الإصلاحي الإسلامي الذي يعتبر الإسلام ثورة فكرية على العصر الجاهلي.

وخلص الباحث زهير توفيق في محاضرته إلى أن أزمة خطاب فاخوري، في كتابه “كيف ينهض العرب”، لا تكمن بالكيفيات والعُدة اللازمة للتغيير، بل في مرجعياته المضادة للنهوض العربي بالمطلق التي عمل الفكر العربي المعاصر على إخفائها أكثر مما فعل فاخوري نفسه.

15