فنان سوري يغيّب التفاصيل تحت فظاعة المشهد العام

ثائر هلال يشكّل من التجريد تراجيديا بصرية ترثي العالم والإنسان.
الخميس 2021/03/18
تكرار مختزل لوضع مملّ

أكثر ما يشوّق في الكتابة عن أي فنان تشكيلي عربي يأتي عندما تعثر له على لوحة جديدة، هي بمثابة قفزة فنية كبيرة نحو أفق جديد يلوح في مسيرته الفنية. وينطبق هذا الكلام على لوحة جديدة من لوحات الفنان التشكيلي السوري ثائر هلال، أو هي على الأقل، آخر ما نشره على صفحته الفيسبوكية.

ليس النص الفني التجريدي بظاهرة جديدة في العالم العربي وقد تبنى عدد كبير من الفنانين العرب هذا النوع من التعبير الفني. منهم من كان مجرد مُستعيد لنصوص فنانين غربيين مشهورين ومنهم من قدّم تجربة فريدة، وذلك لخاصيتين: الأولى هي لناحية كيفية استخدام الألوان والمواد الإضافية. أمّا الخاصية الثانية والأهم فهي التي جاءت على خلفية فلسفية خاصة بالفنان دون غيره من الفنانين.

وعندما نقول “فلسفة خاصة” لا نقصد المعنى العام من التعبير، أي ما قد يرادف تعبير “توجه فكري” أو تعبير “مضامين العمل وعناوينه”، بل نقصد بالتحديد وبشكل حرفي الخلفية “الفلسفية” التي تأسّست عليها الأعمال وتجلّت أكثر فأكثر عبر تسلسلها الزمني.

قد يكون ذلك جاء لا شعوريا، وعلى غفلة تامة من الفنان، أو ربما جاء نتيجة إحساس مقرون بتخطيط تولى ثائر هلال عملية شبك أواصره تحت تأثيرات شخصية ومؤثرات مُتعلقة بمحيطه المجتمعي القريب.

على الأرجح إن الفنان السوري منتمٍ إلى النوع الثاني من الفنانين. النوع الذي نما نصه الفني بتوجيهه، ولكن أيضا بشكل طبيعي ولصيق بشخصيته وتركيبته النفسية الخاصة. وسيلحظ كل متابع لتطوّر أعماله الفنية كيف أصبح فن هلال فلسفة مرئية انطلقت في بداياتها من رسم الوحدات والجزئيات والتسطيح اللوني الذي لا يقيم للكثافة اللونية أية أهمية نحو كُلية المشهد والبنيان المؤثر “عاطفيا” بكتلته وتضاريسه المُتغارسة ووحدة منخفضاته.

بين الكل والجزء

تراكم لوني يشي بفكر فلسفي خاص
تراكم لوني يشي بفكر فلسفي خاص

بشكل عام، يُعتبر الفن التجريدي من أنصار فكرة الفن للفن وإنه ليس على الفن أن يكون مشغولا بهمّ التعبير عن فكرة ما أو تصوير لهيئات واضحة المعالم، وإن نسبيا كما هو الحال مع الفن التشكيلي. لكن هذا لا ينطبق البتة على فن هلال الذي هو تجريدي بامتياز، ولكنه مُحمّل بأفكار وكاشف لآلية التفكير الخاصة بالفنان، و”ناشر” لمشاهد عديدة هي مدنية وطبيعية وعلى امتداد مساحة وطن جريح كوطنه سوريا، وعلى وسع عالم هو عالم عربي غابت تفاصيله تحت فظاعة المشهد العام.

هنا تماما يشكّل عمل الفنان فارقة فنية/ عربية، إذ بالإمكان إحالة مجمل نصه الفني وخاصة أعماله الأخيرة (السابقة للوحة الأخيرة حتى الآن والتي نشرها على صفحته الفيسبوكية) إلى الفلسفة الـ”غيشتالتية” وهي، باختصار شديد، نظرية في علم النفس معنية بالإدراك البصري القائم على ربط مجموعة أشكال ليظهر شكل واحد وشامل مكوّن من مجموعة أشكال وجزئيات موحّدة. يلي ذلك أن الكُلّ هو أهمّ من أجزائه. وأن مجموع الأجزاء أقلّ أداء من الكلّ.

تتحوّل هذه النظرية النفسية إلى نظرية فلسفية/ فنية عند هلال. وتظهر لوحاته جامعة لتفاصيل يمكن النظر إليها على أنها قائمة في حد ذاتها على ناحية جماليتها التجريدية. لكن الفنان يأبى أن يتحالف مع أيّ جزء من لوحاته وأن يعتبره أهلا بأن يكون هو لوحة منفصلة ومستقلة.

وفي حين كانت لوحاته تنحو نحو تداخل لوني مُكثّف واستخدام هوسيّ بالورق المدعّم والمقولب تلبية لتصوير مشاهد تجريدية وتراجيدية عن وطن مأزوم رزح تحت هول الحرب وما خلفته من دمار وردم وحفر، جاءت لوحاته التالية أشبه بعُلب سحرية تحمل قطعا مرصودة على أن يُشكّل بها كُلّا مُتناسقا ومتوازنا.

جاءت أعماله ما قبل الأخيرة كاشفة عن عشق الفنان للتكرار (علّه يكون مدخلا إلى فضاء أو حقيقة جديدة) وحبه للاختزال كنوع من إلحاح تبسيطي يسكن الفنان، ويريد منه أن يوصله إلى السكينة والرضا بما وصل إليه من صيغ فنية، هي في حقيقتها كناية عن أبحاث تجارب مستمرة.

تحية خاصة

لللل
لوحة تؤسّس لمرحلة جديدة في مسار هلال الفني، يطغى عليها الأحمر والأسود، مع هدوء لوتيرة مراكمة الطبقات اللونية

يكفي النظر إلى رسومات هلال الورقية الكثيرة التي نشرها خلال آخر السنة الماضية على صفحته الفيسبوكية، لندرك ما يعني الجزء وما هو علاقته بالكلّ بالنسبة إلى الفنان. (نشر ربما أكثر من مئة رسمة هي صور شخصية مشغولة “تجريديا” لوجوه العاملين في القطاع الصحي وبتدرجات لون واحد وهو البني)، لتكون مجرّد أجزاء شبه مُكرّرة تخدم المشهد العام المُشكّل منها، وتأتي تحت عنوان “تحية إلى عاملي القطاع الصحي”.

ثم نصل إلى اللوحة الأخيرة التي نشرها الفنان على صفحته الفيسبوكية. بل لنقل بعبارة أدق، نأتي إلى “الصورة” الأخيرة التي نشرها، والتي يظهر له فيها عمل فنيّ يطغى عليه اللون الأحمر والأسود ويستوفي الشروط الفنية الخاصة بالفنان والتي أتينا على ذكرها، ولكن مع هدوء لوتيرة مراكمة الطبقات اللونية.

تفتح هذه اللوحة على ما يبدو نحو مرحلة جديدة قد يكون الفنان بصدد الدخول إليها، أمّا الآخذ إليها حتما هو فضاء المرسم المحيط باللوحة الذي ينسجم انسجاما كليا مع اللوحة حتى يكاد يكون امتدادا لها.

هل جاء دور لوحة الفنان المؤلفة من أجزاء أن تكون هي جزء من المشهد العام؟ هل هاجس التوسّع لنص فني فلسفي لم يعد يحتمل الحدود التي وضعها له الفنان ضمن إطار مهمّ اتسع ولم يزل أضيق من أن يتيح له الانتشار؟ هل يقف الفنان على عتبة الولوج إلى عالم التجهيز الفني وهو لديه ميل شديد نحو التجريب واستخدام المواد المختلفة في أعماله السابقة؟ أسئلة قد نجد إجابات عنها في

16