فنانون مصريون يلاحقون الذبذبات الضوئية في الأثير

أعمال الدورة التاسعة والخمسين لصالون القاهرة التشكيلي تتيح مزيدا من الانطلاق والانفلات من القيود المدرسية والتحرر من مواصفات الشكل وروتينية الأسطح.
السبت 2020/10/24
لوحات لأجيال مختلفة

لم يتوقف الفن الحديث عند حدود المواد المتعارف عليها بل اجتاز الأبعاد الجمالية والفكرية والمادية ليتحرر من القوالب، حيث نجده يخوض تجربة غير مضمونة النتائج، لكنها كاسرة للقيود النمطية للجسد والعقل والنفس. وفي هذا الإطار يأتي صالون القاهرة في دورته الـ59 الذي اشتغل فنانوه على “الأورا” تلك الهالة الشخصية والغلاف غير المرئي الذي يحيط بكل منا.

القاهرة - لا تنتهي مقترحات الفنون البصرية ومبتكراتها التعبيرية والتخييلية، وأحدثها ثيمة “الأورا” أو الهالة الضوئية المحيطة بالأجسام، التي تندرج تحتها أعمال صالون القاهرة للفن التشكيلي، المنعقد حاليًا في قصر الفنون بدار الأوبرا المصرية بمشاركة خمسة وثمانين فنانًا، ويستمر حتى الثالث من نوفمبر المقبل.

يسعى صالون القاهرة في دورته الـ59، الذي يقام بالتعاون بين جمعية محبي الفنون الجميلة وقطاع الفنون التشكيلية، إلى ترسيخ ذاته كأعرق فعالية فنية بمصر انطلقت منذ قرابة مئة عام لدعم التواصل بين الأجيال وتعميق الحوار بين الاتجاهات المتعددة وملاحقة تطورات حركة التشكيل العالمية، ولولا عدم الانتظام في إقامته سنويًّا بسبب الحروب والأحداث السياسية، لكانت دورته الحالية هي المئوية.

لا يكفي الاتكاء على التاريخ بطبيعة الحال لتقديم وجه الصالون من خلال الفنانين القدامى والراسخين والمكرمين هذا العام، ومنهم: جورج البهجوري، زينب السجيني، عبدالمنعم الحيوان، مصطفى عبدالمعطي، رباب نمر، وغيرهم، وإنما الأهم إبراز أعمال الأجيال اللاحقة من الفنانين المعاصرين والشباب في مجالات الفن المتنوعة: الرسم، التصوير، النحت، الخزف، التجهيز في الفراغ، الفيديو آرت، الفوتوغرافيا.

قنص غير مادي

"الأورا" نصاعة الاتقاد وسيولة الخطوط والأسطح
"الأورا" نصاعة الاتقاد وسيولة الخطوط والأسطح

يكرّس صالون القاهرة جهوده لتحقيق هذه المعادلة الإشكالية، بمحاولة التوازن بين الأصالة والحداثة والتجريب، وتميل إبداعات الفنانين الشباب إلى استثمار عنوانه العريض “الأورا والهالة والفرادة في الفن المصري المعاصر” من أجل إثبات حضورهم الفني بخوض تجارب شفيفة تتفاعل مع الضوء الداخلي للكتل والكائنات، والجوهر العميق للإنسان، ولا تنفصل في الوقت نفسه عن الهوية الفنية والمجتمعية وجذور المدرسة المصرية في التشكيل، رغم الانفتاح على الرياح الوافدة من سائر الاتجاهات.

يشكل عنوان الصالون تحدّيًا حقيقيًّا للفنانين المشاركين، وامتحانًا لمعنى الفن وفلسفته بشكل عام، فالأورا أو الهالات المحيطة بالأجسام والأضواء المنبعثة منها هي إشعاعات محسوسة بالبصيرة والضمير أكثر منها مرئية بحاسّة البصر الاعتيادية، وهي الذبذبات الأثيرية الدينامية، المشحونة بوهج الروح وأسرار الطاقة الخفية، التي تتلبّس الصور والملموسات، وتفجّر مكنوناتها بفيض لانهائي من الرسائل والرموز والإيحاءات الثرية.

هذه المساحة البرزخية المراوغة، التي تتقاطع فيها خطوط الرؤية وخيوط الاستشعار، هي فضاء اشتغال الأعمال المعروضة بالصالون، وقد أفسحت فكرة الصالون الفرصة لمزيد من الانطلاق والانفلات من القيود المدرسية والتحرر من مواصفات الشكل وروتينية الأسطح، سعيًا وراء قنص غير مادي، وخلق عوالم تخلط الواقع والفانتازيا والأساطير والأحلام.

هذا الانكباب على الطاقة الحيوية وأشعتها الكهرومغناطيسية غير المرئية يقود بالضرورة إلى استشفاف الحالات النفسية والعاطفية والوجدانية للإنسان، وقراءة المسكوت عنه في داخل الذات، وتأويل ما تحمله الكتل الصمّاء افتراضيًّا من أصوات وحركات وانفعالات وإشارات وومضات، ما يعني أن العمل الفني يصير ابتداعًا كاملًا، ونسجًا على غير منوال ثابت وقوالب جاهزة.

من هنا، يتجلى سؤال الفن الحداثي الأصعب، بقطيعته النهائية مع ميكانيكية النقل الظاهري للأشياء، على ألا يعني ذلك التوجه الطليعي الانسلاخ من التفاصيل المعيشة، والموروث الفني والشعبي والحضاري، وتضاريس البيئة المحلية، وإلا صارت الأعمال تهويمات وصيحات جوفاء، مثلما بدا في بعض نماذج الصالون، خصوصًا في مجالي الفيديو آرت، والتجهيز في الفراغ، كما في تراكيب الفنان ضياءالدين داود الغرائبية.

سيولة الخامة واللون

أعمال الفنانين من أجيال متلاحقة تتجاور تحت إطار عام متسق ليطالع المتلقي بنفسه التيارات المتعددة
أعمال الفنانين من أجيال متلاحقة تتجاور تحت إطار عام متسق ليطالع المتلقي بنفسه التيارات المتعددة

في المحصّلة، تبقى من أبرز مكاسب صالون القاهرة التشكيلي إتاحته وجبة فنية متنوعة لجمهور المعرض، حيث تتجاور أعمال الفنانين من أجيال متلاحقة، تحت إطار عام متسق، ويطالع المتلقي بنفسه التيارات المتعددة، والمهارات والقدرات المتفاوتة للفنانين المشاركين، بحسب إمكاناتهم وخبراتهم وطموحاتهم.

تُجَسّد أعمال المخضرمين والمكرمين في الدورة التاسعة والخمسين للصالون فاكهة المعرض وعطوره المعتّقة، ففي أعمال زينب السجيني وجورج البهجوري ومصطفى عبدالمعطي تدفقات لونية من منابع الانصهار البركانية، حيث البشر في صخبهم الحي، وحيويتهم الصاخبة، وتأملاتهم الإشراقية، ودفئهم العائلي الذي لا تنقطع ألفته وبهجته، وتمتد مظلته لتأتنس بها الطيور والحيوانات المنزلية.

“الأورا”، هي نصاعة الاتقاد وسيولة الخطوط والأسطح، حتى الأشكال الهندسية الصارمة لدى عبدالمعطي من دوائر ومثلثات ومربعات ومستطيلات تتخلى عن قسوة انتظامها لتلين تحت وطأة الهالات النورانية التي تمنح الشموع قداسة ووضاءة، وتجعل من اللهب مرادفًا للتطهر والاستنارة وعبور نفق العتمة كأزمة روحية قبل أن تكون فقدانًا لعدسة الرؤية.

وتسيل الخامات طواعية في أعمال عبدالمنعم الحيوان النحتية، وتتشعب الهالات دوّامات متتالية وحركات دائرية متصاعدة من الكتل السابحة في الفراغ برقصاتها التعبيرية الرشيقة، وتحيل مجسّمات الفنان إلى التنوّرة الشعبية والرقصات الصوفية والصلوات التعبدية، وهي كلها إطلالات تبعث النورانية من رحم الجسدانية.

وتأتي أعمال التصوير على رأس قائمة الأعمال الناضجة في صالون القاهرة، كما في لوحات نذير الطنبوري ووائل درويش وعمر الفيومي ووليد قانوش، ويلاحظ فيها جميعها التركيز على التجسيم وإبراز البعد الثالث للكتلة، سواء كانت جسدًا بشريًّا أو كائنًا حيًّا أو أسطوريًّا أو شكلًا هندسيًّا، مع ترقية الألوان إلى رتبة الأضواء لتقدر على استيعاب الهالات المحيطة بالأجسام، والمنبعثة من داخلها، والمعبّرة عن أمزجتها وانفعالاتها الطازجة البريئة، بغير معالجة وتشذيب.

ومن الأعمال الشائعة بالصالون، البورتريهات الكاملة والمجتزأة للكائن الآدمي، ومنها الكثير في مجال الخزف كما في تجربة حسام زكي، وفي مجال النحت كما في تماثيل سام شندي، ومن الغريب خضوع المنحوتات والخزفيات للصبغات اللونية الزاعقة، الأمر الذي يفقد الخامة الأصيلة نكهتها ورائحتها، لكن الهدف الغائي قد يكون مبررًا لذلك، وهو بلورة “الأورا” المهيمنة على الكتلة، والتي تقودها إلى مسارات ومدارات غير اعتيادية.

محاولة التوازن بين الأصالة والحداثة والتجريب
محاولة التوازن بين الأصالة والحداثة والتجريب
بورتريهات كاملة ومجتزأة للكائن الآدمي
بورتريهات كاملة ومجتزأة للكائن الآدمي
إطلالات تبعث النورانية من رحم الجسدانية
إطلالات تبعث النورانية من رحم الجسدانية

 

14