عودة المجلات الثقافية

يعيد إصدار الأعداد الكاملة لمجلة “الثقافة الجديدة” المغربية الحياةَ لمجلة خاضت عقدا من الزمن من أجل بناء جانب من الثقافة المغربية الحديثة المنفتحة على الآخر، قبل أن يصدر وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري في سنة 1984 قرارا بتوقيفها، على إثر الأحداث الدامية، التي تفجرت في يناير من نفس السنة. وهو القرار الذي أتى في نفس اليوم على حياة ثلاث مجلات أخرى وهي “البديل” التي أصدرها الكاتب بنسالم حميش، و”الزمان المغربي”، التي كان يديرها الكاتب سعيد علوش، “والجسور”، التي كان قد أطلقها الكاتب عبدالحميد عقار.
وفي ما يخص تجربة إطلاق مجلة “الثقافة الجديدة” فتعود إلى سنة 1974، حيث اتفق أربعة كتاب مغاربة، لم يكن يتجاوز أكبرهم الثلاثين سنة، على إطلاق مجلة جديدة. الشاعر محمد بنيس، باعتباره مديرا، والكاتب مصطفى المسناوي، والناقد محمد البكري والمسرحي عبدالكريم برشيد، قبل أن يلتحق في ما بعد بالهيئة الشاعر عبدالله راجع والكاتب محمد العشيري والكاتب يوسف فاضل، فيما انسحب عبدالكريم برشيد.
كانت تقود هؤلاء رغبتهم الجماعية في التغيير الثقافي وأحلامهم بمغرب آخر. وهي أحلام لم يكن يسعها عدد من المجلات التي أطلِقت خلال الستينات ومنتصف السبعينات، من بينها “المناهل” و”الثقافة المغربية” اللتين كانت قد أطلقتهما وزارة الثقافة المغربية، و”مجلة القصة والمسرح”، التي كان قد أصدرها كل من محمد برادة وعبدالجبار السحيمي ومحمد العربي المساري، ومجلة “أقلام”، التي أصدرها أحمد السطاتي ومحمد إبراهيم بوعلو، بالإضافة إلى مجلة “آفاق” الصادرة عن اتحاد كتاب المغرب.
وفوق ذلك، كانت فترة السبعينات، برغم الزخم الفكري والإبداعي الذي كانت تحفل به، تفتقد إلى بنيات النشر الحديثة التي يمكن أن توازي هذه الحركية، إذ ظل قطاع النشر مُحاطا بالإكراهات التي كانت تطبع المشهد الثقافي المغربي، والتي تزامنت مع خروج المغرب من لحظة الاستعمار ومع بحثه عن مشروعه الثقافي الخاص وقنوات تداوله.
وبذلك، ستظل المجلات الثقافية، خلال عقود من تاريخ المغرب وعدد من الدول العربية، تمثل المعبرَ الأساس للنقاش والتداول الثقافي والإبداعي وأيضا لانبثاق الأجيال الأدبية والثقافية، خصوصا في الوقت الذي يكون فيه مشهد النشر منكفئا على نفسه وغير قادر على مسايرة إيقاع إنتاج الأفكار وتداولها الواسع. ولذلك، كان عاديا أن تمثل المجلات الموئلَ الأفضل الذي تتحلق حوله الجماعات الأدبية والثقافية، حيث تبدو المجلات ككائنات حية. منها ما تولد وتكبر وتغير أسماءها وتموت. ومنها ما تظهر لتختفي ومنها ما تُعمر لتتجاوز أعمارَ قرائها. ومنها ما تلتئم حولها الجماعات.
وانسجاما مع كل ذلك، اختارت مجلة “الثقافة الجديدة” منذ البداية أن تكون صوتا يحقق اختلافه الخاص، في لحظة كانت الثقافة المغربية تبحث عن جانب من هويتها التي فقدها البلد أثناء مرحلة الاستعمار.
ولذلك، ستختار المجلة البحث عن خلق بديل ثقافي جديد من حيث نوعيته وأسئلته الخاصة، مع التأكيد على أن هذا البديل ليس مقطوعا عن جذوره.
ولعل هذا ما ستعكسه المجلة منذ عددها الأول الذي جمع لأول مرة كتابا تفرقهم الاهتمامات ولغات الكتاب، وعلى رأسهم عبدالله العروي، الذي كان يُعرف حينها بشكل خاص من خلال عمليه “الأيديولوجية العربية المعاصرة” و”أزمة المثقفين العرب”، والروائي الطاهر بن جلون الذي كان قد اشتهر حينها بنصه “حرودة”، والكاتب عبدالقادر الشاوي، الذي سيتعرض للاعتقال بعد ثمانية أشهر على صدور العدد الأول، بالإضافة إلى الشاعرين عبدالله راجع ومحمد الوكيرة.
والأكيد أنها ليست المرة الأولى التي تستعيد فيها مجلة “الثقافة الجديدة” حياتها ضدا على قرار المنع. أما الطريف فهو أن العدد الأخير الذي كان يفترض أن يصدر قبيل المنع والذي كان مخصصا لملف عن المسألة الثقافية في المغرب، صار متاحا في المكتبات المغربية. وذلك بعد أن استضافته مجلة الكرمل الفلسطينية.
ولن تكون مجلة “الثقافة الجديدة” الحالة الوحيدة التي كُتبت لها حياة جديدة، بعد أن تصالح المغرب مع نفسه. إذ سيعيد الشاعر عبداللطيف اللعبي إصدار المجموعة الكاملة لمجلة “أنفاس”، بعد حوالي نصف قرن على منعها، وذلك بدعم من مؤسسة رسمية، وهي وزارة الثقافة المغربية، بعد أن كانت المكتبة الوطنية قد أتاحت نسختها المرقمنة.
في نفس السياق، ستصدر سيرة الخبز الحافي لمحمد شكري في أكثر من طبعة بعد سنوات على منعها. كما سيكون من حظ القارئ المغربي أن يلمس من جديد سيرة “كان وأخواتها” لعبدالقادر الشاوي، والتي سبق حجزها أياما فقط بعد صدورها.
والأكيد أن المنع ليس ظاهرة عربية. بل إنها تبدو مشتركة بين جميع الجغرافيات التي قد تتواجد فيها رائحة رهاب المكونات الثلاثة، الدين والسياسة والجنس. ولا يستثني ذلك الدول التي تقدم نفسها كحامية للحرية المطلقة. ولعل حالة فرنسا أفضل نموذج. إذ شهد البلد على سبيل المثال، في عهد رئاسة فرانسوا ميتران، القادم من الحزب الاشتراكي الفرنسي المعروف بأفكاره المدافعة عن الحرية، منع ما يناهز المئة كتاب ووثيقة. وذلك في الوقت الذي كانت السيدة دانييل ميتران تعطي الدروس في احترام الحريات للآخرين!