عبدالرحيم كمال: إذا لم تستطع أن تحب فتحبّب

السيناريست المصري يرى في الرجوع للتاريخ مخرجا وبابا للحلول وليس نوع من الهرب.
الخميس 2019/11/07
التطهّر بالحب في مسلسل "الخواجة عبدالقادر"

فرض كاتب السيناريو عبدالرحيم كمال اسمه على الساحة الفنية بمصر على مدار عشر سنوات بأعماله المستمدة من نزعات صوفية ذاتية، تقدّم المحبة كقيمة إنسانية في حد ذاتها، مع خلطها بسياقات اجتماعية وتاريخية مغايرة للتراث المتعارف عليه، ليصل بمشاهديه إلى مرحلة من التطهير الذاتي المصحوب بانطباعات نفسية لا يزول مداها سريعا.

القاهرة - بدأت الأعمال الصوفية تحجز لنفسها مكانا داخل الدراما العربية على مدار الأعوام الماضية، مع اقتناع كتاب السيناريو بأن قيم المحبة التي تحملها يمكنها الوقوف كحائط إزاء انتشار قوى التطرف، وانجذاب الجمهور نحو أشعار العشق الإلهي، وتعلقهم بالكرامات الفريدة التي ينالها الأقطاب والأولياء في أزمنة اختفت فيها المعجزات.

ويعتبر الكاتب المصري عبدالرحيم كمال من المهووسين بالجمع بين النمطين التاريخي والصوفي في عمل واحد، محلّقا بين ثنايا التاريخ كبوابة عبور لاستقراء المستقبل، لتتحرّك شخصياته بين الأزمنة بعد خلطها بنفحة روحية واضحة أو مستترة من الصفاء والمحبة، ومغلّفة بسياقات شعرية عن الوصل وفناء الذات والجفاء.

وكشف كمال في حواره مع “العرب”، اقتناعه التام بالفكر الصوفي دون الزج به بصورة مباشرة في كل أعماله، فيكفيه أن تتضمّن روح المحبّة، التي تمثل عَصب الصوفية قبل تحوّلها إلى موضة دارجة حاليا لا يرفضها طالما أنها تحمل جوانب أخلاقية لتحتوي مؤلفاته على المحبة التي يشتاق إليها الجمهور، حتى لو لم يكن الحب إلهيا، ومجرد قصص عاطفية بين البشر.

وقدّم كاتب السيناريو المصري خمسة أعمال تناولت الصوفية، غالبيتها من بوابة تاريخية، لتتحدّث عن رموز شهيرة من الأولياء قادوا معارك للتغيير الفكري، ضمن سياق أكبر يربطها بالظروف السياسية المحيطة، لتعيد تقديم مقدّمة معالجات جديدة لمأساة الحلاّج، ومقامات العشق والهوى لابن عربي، وترجمان الأشواق، والحرملك، وعندما تشيخ الذئاب.

قلب يخلو من الحب

السيناريست المصري قدّم أعمالا تناولت الصوفية من بوابة تاريخية لتتحدّث عن رموز شهيرة قادت معارك للتغيير الفكري
السيناريست المصري قدّم أعمالا تناولت الصوفية من بوابة تاريخية لتتحدّث عن رموز شهيرة قادت معارك للتغيير الفكري

قال عبدالرحيم كمال لـ”العرب”، إن قناعاته الخاصة تظهر في ما يكتب، ومنها أنه إذا لم تستطع أن تحب فـ”تحبّب”، فقصص المحبة تشكّل فارقا مع المشاهدين في حياتهم اليومية وتمنحهم طاقة إيجابية، والكتابة ينبغي أن تتضمن فكر صاحبها، وتتّسم بالاتساع والرحابة التي تجعلها تشبه أناسا كثيرين عبر الوعي والثقافة والهم الشخصي لدى المؤلف.

وقدّم كمال عملا صوفيا صرفا في مسلسل “الخواجة عبدالقادر”؛ بطولة الفنان يحيى الفخراني، عن قصة بريطاني تحوّل إلى صوفي عاشق بنقائه وصفائه بعد قضائه فترة في رحاب أهل البُردة في السودان، قبل التوجه إلى الصعيد في جنوب مصر لإدارة أحد المحاجر واعتناق الدين الإسلامي والوقوع في عشق شقيقة عمدة القرية، معليا شعار “الناس موتى وأهل الحب أحياء”.

وفي خضم نظرته المتصوّفة، قدّم أيضا رجال الدين بكافة أشكالهم، فمنهم الزهّاد ومنهم المنافقون وأيضا الطامحون إلى السلطة، وقد يدفع بهم دفعة واحدة كمسلسله “الخواجة عبدالقادر”، ليكون مدّعيا متمثلا في شيخ القرية، والدين البسيط الشعبي متجسّدا في مُحفّظ القرآن الضرير، والاعتدال في متصوّفة السودان، والسلطة في شخص العمدة، راسما صورة للمستبد دائما بأنه قلب “يخلو من الحب”.

وأكّد كمال أن تطّلع رجل الدين إلى السلطة أو الاقتراب منها، يأخذ من مصداقيته لدى العامة لأن الدين أكثر نزاهة، لكن تسير اللعبة دائما في طريقين، إما أن تستخدم السلطة رجل الدين أو يتطلع الأخير لأن يكون من أصحاب النفوذ، وهو ما حدث على مدار التاريخ، لكنها تظل لعبة خطيرة يخسر فيها الجميع.

ولا يلجأ السيناريست المصري إلى التاريخ كنوع من الهروب بل يراه مخرجا وبابا للحلول، وهو يقول “الحديث الصادق عن البشر في أي زمان ومكان من شأنه أن يحيلنا إلى الحديث عن السياسة والاقتصاد وحتى الحب، لأن الإنسان لن يمر دون وجود تلك التفاعلات التي تأتي عبر الصدق، وليس ‘القصد’ ليّ أعناق الحقائق”.

أظهر كمال اهتماما بالربط التاريخي في أعماله لحفظ الهوية القومية أمام موجات الاقتباس من الغرب، فمعظم الدراما، خلال السنوات الماضية، صارت مستوردة مثل “الملابس الجاهزة”، فأضحى الغالبية يرتدون الأشكال ذاتها، قائلا “أعتبر نفسي حائكا قديما يدافع عن الجلباب والقفطان، والمكان والزمان والشخصيات التي ولدت بينها. وما دام الكل يستورد شخصيات وأزمنة وأمكنة، باتت الوجوه والقصص والأزياء كأنها نسخة واحدة”.

الركض بين الأزمنة

Thumbnail

تجوّل عبدالرحيم كمال في أعماله بين الأزمنة راكضا بين الماضي والحاضر حتى في فيلمه الأخير “خيال مآتة” مع أحمد حلمي، لم يخل من الرحلة ذاتها بين شخص يتورط في جريمة سرقة في الماضي ويحاول تكرارها في الحاضر بالاستعانة بمعاونيه الذين هرموا العمر، في رحلة زمنية لا تخلو من الجمل الصوفية عن تقلبات الحياة مثل “يوم تعيشه لا تشعر به.. ويوم قادم لا تعرف عنه شيئا.. ويوم مضى لا يمكن أن تعيده”.

وأوضح كمال لـ”العرب”، أنه مهووس بالزمن والتاريخ، وهما جزء من همه الشخصي الذي يشغله، فالزمن هو الوجود كله، ومن ثم يحاول التحرك بين جنبات هذا السر وسبر أغواره، لمعرفة العلاقة بين الماضي واللحظة الراهنة والمستقبل، وعندما يكتب لا يرى اللحظة بمعزل عما قبلها أو ما بعدها فالتاريخ يعيد نفسه.

يتحرر كمال من الالتزام بحكايات التاريخ المتواترة ليقدّم السفاحتين “ريا وسكينة” في مسلسل “أهو ده اللي (هذا الذي) صار”، بوصفهما مناضلتين تستهدفان اغتيال جنود الإنكليز المحتلين، وفي “الكنز 1 و2” طوّع التاريخ من أجل رؤيته، فبعض الأحداث التاريخية لم يقدّمها وفق سياقها المتداول وعمد إلى إعادة قراءة بعضها، وتغيير صورتها، مثل علي الزيبق والملكة حتشبسوت.

عبدالرحيم كمال: ممنوع تغيير الحقائق التاريخية، لكن للخيال أحكامه في الدراما
عبدالرحيم كمال: ممنوع تغيير الحقائق التاريخية، لكن للخيال أحكامه في الدراما

وعندما أراد خوض مغامرة تعريب عمل غربي، قدّم مسرحية “الملك لير” للشاعر الإنكليزي الشهير وليام شكسبير في صورة مغايرة تماما تناسب البيئة الصعيدية، بإخوة غير أشقاء للبطل وبشبكة تفاعلات داخلية بين بناته الثلاث، اللاتي أراد توزيع ثروته عليهنّ وفقا لدرجة حب كل منهنّ له، وحتى الاسم ذاته جاء مغايرا باختيار “دهشة”، ليؤكد أن بشاعة النفس البشرية الطمّاعة والناكرة للجميل تثير الدهشة والحيرة.

ومع ذلك يشير عبدالرحيم كمال في حواره مع “العرب” إلى أن تغيير الحقائق التاريخية ممنوع، “فلا يمكن تحويل المنتصر مهزوما ولا يمكن اختراع معركة لقائد لم يخضها، لكن هناك أشياء قابلة لتحريك الخيال مثل قصة ريا وسكينة التي تتضمن أكثر من رواية إحداها دارجة والأخرى ضعيفة، والأمر يرتبط فقط باختلاف الروايات..

ولا تغيب النظرة الصوفية عن تناول كمال للصعيد (جنوب مصر) الذي تربّى فيه خلال طفولته، وهو يرى أن الصعيد مظلوم تاريخيا وجغرافيا، والتعبير عنه دراميا زاده ألما لأنه ظهر لفترات طويلة في صورة مغايرة للواقع، لا يتكلم أبطاله لهجة الصعيد الحقيقية بل مجرد “تعطيش” حرف الجيم فقط، وتصوّرهم كأناس عصبيين يحملون السلاح ويضربون الرصاص، حتى ظهر في أواخر السبعينات مسلسل “مارد الجبل”، وبعده مسلسل “ذئاب الجبل”، الذي يعتبر نقلة تامة بعدما قدّم المؤلف محمد صفاء عامر صعيدا يشبه الحقيقة.

وكان مسلسل “الرحايا.. حجر القلوب” بطولة الفنان نور الشريف، باكورة إنتاج عبدالرحيم كمال الدرامي قبل عشر سنوات، وفيه قدّم الجنوب بصورة غير معتادة وبقصة شاعرية عن رجل صعيدي عصامي كوّن مالا وسلطة يتعرّض نجله للقتل غرقا في النيل، ويتبيّن ضلوع أشقائه في الجريمة فيعاني مرارة نفسية بين الكراهية والعشق والتسامح والانتقام ولا يجد مفرا إلا في الحب، وحمل العمل نسمات من قصة النبي يوسف عليه السلام وإخوته.

16