طاعون القلوب

تسمّرت الأعين إلى الشاشات، وهي تتابع ما يجري في العالم اليوم، من مكافحة لفايروس كورونا. لكن ما لا تراه تلك العيون، هو الإعادة المبرمجة لتكوين نظام عالمي جديد، يهدم القديم ويبني منظومة علاقات وتصورات جديدة تماما قائمة على الطوارئ.
وبعد أن أفتى المشايخ في كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس، لم يبق لهم سوى أن يفتوا في كيفيات مواجهة وباء كورونا، ويعلموا الناس ما الذي يجب وما الذي لا يجب عليهم اتباعه للوقاية من المرض وفي الوقت ذاته لمواجهته بترحيب قدري، بالذهاب إلى المساجد والتجمعات دون الاكتراث بكل التحذيرات الطبية من التجمعات البشرية.
يعتقد البعض أن هذا الوباء ظهر عندنا فقط حين ظهر في ووهان، لكنه قديم جدا في بلادنا العربية والإسلامية، وهو طاعون للقلوب قبل الأجساد. فايروس الجهل والتغييب والعيش في كهف معزول، أمر شائع جدا في ثقافتنا، وضحاياها بعشرات الملايين إن لم نقل أكثر.
ولا يغيب كتاب “بذل الماعون في فضل الطاعون” لابن حجر العسقلاني عن الذهن في هذه الأجواء، دون أن ننسى معه تدوينات التوراة والإنجيل، عن حديث الرب مع داود حين قال له “أن تأتي عليك سبع سني جوع في أرضك، أم تهرب ثلاثة أشهر أمام أعدائك وهم يتبعونك، أم يكون ثلاثة أيام وبأ في أرضك؟”، لكن داود اختار الوباء، وتتابع التوراة “وجعل الرب وبأ في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع سبعون ألف رجل”. فيا له من خيار حكيم!
ما يتم جرفُه حالياً، ليس فقط قواعد مواجهة وباء شديد العدوى، بل أيضا قواعد رسخت طويلاً في القلوب، آن أن تمضي ويتواصل توق الناس إلى التغيير بأشكاله المختلفة، تغيير علمي نحو الغد لا السكن في الماضي السحيق.
وكما يتوجب تعقيم كل شيء في حياتنا اليوم على مستوى الكوكب، يتوجب أيضاً تعقيم الزوايا المعتمة في العقول، التي عششت فيها عناكب وميكروبات وفايروسات قاتلة، هي من يفتك بالناس ويرهبهم مرة بالبارود ومرة بالسياسات الخاطئة في مجالات شتى، التعليم والتربية والثقافة والدين والاقتصاد والتنمية وغيرها.
ولا يسع المرء في هذه المناخات إلا تذكّر قصيدة الشاعرة العربية الكبيرة فدوى طوقان التي قالت فيها “يوم فشا الطاعون في مدينتي، خرجتُ للعراء، مفتوحةً الصدر إلى السماء، أهتفُ من قرارة الأحزان بالرياح: هبّي وسوقي نحونا السّحاب يا رياح، وأنزلي الأمطار، تطهّرُ الهواء في مدينتي، وتغسل البيوت والجبال والأشجار، هبّي وسوقي نحونا السّحاب يا رياح، ولتنزل الأمطار، ولتنزل الأمطار”.