صناعة الترند.. فخ يسقط فيه المستخدمون لمواقع التواصل الاجتماعي

وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد بشكل كبير على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لترتيب المحتوى والتوصية به.
الأربعاء 2021/09/22
عدوى معقدة

واشنطن- تجربَ منصة فيسبوك مؤخراً، وبهدوء، تقليل كمية المحتوى السياسي الذي تضعه في الصفحات الرئيسية للمستخدمين، في خطوةٍ تُعَدُّ إقراراً ضمنياً بأن الطريقة التي تعمل بها خوارزميات الشركة قد تمثّل مشكلة.

وتعتمد خوارزميات الوسائط الاجتماعية -وهي القواعد التي تتَّبِعها أجهزة الكمبيوتر في تحديد المحتوى الذي تراه على صفحتك الرئيسية- بشكلٍ كبيرٍ على سلوك الناس في اتِّخاذ القرارات، أي التفاعل مع المنشور؛ حيث تتم مراقبة المحتوى الذي يستجيب له الأشخاص أو يتفاعلون معه من خلال الإعجاب والتعليق والمشاركة ومن ثمة تحويله إلى ترند.

وقد درس فيليبو منكزر، عالم الكمبيوتر طُرق تفاعل الناس باستخدام التكنولوجيا، بطريقة متعمقة منطق استخدام “حكمة الجماهير” في الخوارزميات التي تعمل بها منصات التواصل الاجتماعي، وكشف في تقرير نشره في موقع “صالون” ألأميركي عيوباً كبيرةً في كيفية استخدام شركات التواصل الاجتماعي هذه الخوارزميات.

ويفترض مفهوم “حكمة الجماهير” أن استخدام إشاراتٍ من تصرُّفات الآخرين وآرائهم وتفضيلاتهم يؤدِّي إلى قراراتٍ سليمة. على سبيل المثال، عادةً ما تكون التنبؤات الجماعية أدق من التنبؤات الفردية. ويُستخدَم الذكاء الجماعي للتنبؤ بأحوال الأسواق المالية والأحداث الرياضية ونتائج الانتخابات، وحتى تفشي الأمراض.

بمعنى آخر إذا تشارك عدد كبير من الناس في التعبير عن إعجابهم بمنشور ما، تفترض الخوارزمية أن ذلك المنشور الذي يحظى بالشعبية هو منشور جيد يستحق أن يصل إلى عدد أكبر من المستخدمين، وهكذا يتم ترويجه بصورة أكبر وأسرع من منشورات أخرى تم نشرها في نفس التوقيت ليصبح ترندا.

"حكمة الجماهير" تفشل لأنها مبنية على افتراض خاطئ بأن الجمهور يتكون من مصادر متنوعة ومستقلة

وعلى مدار ملايين السنين من التطوُّر تم ترميز هذه المبادئ في الدماغ البشري في شكل تحيُّزاتٍ معرفية. فإذا شرع الجميع في الجري يجب أن تبدأ أنت أيضاً الجري، فربما رأى أحدهم أسداً يركض، وقد ينقذ ذلك حياتك. قد لا تعرف السبب، ولكن من الحكمة طرح الأسئلة لاحقاً وليس الآن.

يلتقط دماغك أدلةً من البيئة المحيطة-بمن في ذلك أقرانك- ويستخدم قواعد بسيطة لترجمة هذه الإشارات بسرعةٍ إلى قرارات. اذهب مع الفائز واتَّبِع الأغلبية، وقلد من هو بجوارك. تنجح هذه القواعد بشكلٍ جيِّد في المواقف النموذجية، لأنها تستند إلى افتراضاتٍ سليمة. على سبيل المثال، يُفتَرَض أن الناس غالباً ما يتصرَّفون بطريقة عقلانية، ومن غير المُرجَّح أن يخطئ الكثيرون، والماضي يتنبأ بالمستقبل، وما إلى ذلك.

وبالتالي فإن التكنولوجيا تسمح للمستخدمين بالوصول إلى إشاراتٍ أكثر من التي يصل إليها غيرهم، ومعظمهم لا يعرفون ذلك. وتستفيد تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكلٍ كبير من إشارات “المشاركة” هذه؛ من اختيار نتائج البحث إلى التوصيات بالموسيقى ومقاطع الفيديو، ومن الأصدقاء المُقتَرَحين إلى ترتيب المنشورات على الصفحة الرئيسية.

لكن المؤكد هو أنه ليس كلُّ شيءٍ ينتشر على نطاقٍ واسع هو أمر يستحق الإعجاب أو التقليد. وتتمتَّع جميع منصات تكنولوجيات الويب تقريبا -مثل وسائل التواصل الاجتماعي وأنظمة الترشيحات الإخبارية- بشعبيةٍ واسعة. وعندما تكون التطبيقات مدفوعةً بإشاراتٍ مثل المشاركة بدلاً من استعلامات محرِّك البحث الصريحة فقد يؤدِّي تحيُّز الشعبية إلى عواقب ضارة وغير مقصودة.

وتعتمد مواقع التواصل الاجتماعي -مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر ويوتيوب وتيك توك- بشكلٍ كبيرٍ على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لترتيب المحتوى والتوصية به. وتؤخَذ هذه الخوارزميات كمُدخلات لما يعجبك وتعلِّق عليه وتشاركه؛ وبعبارةٍ أخرى ما تتفاعل معه. والهدف من الخوارزميات هو زيادة المشاركة من خلال معرفة ما يحبه الناس وترتيب ذلك في أعلى صفحاتهم الرئيسية.

للوهلة الأولى يبدو هذا المنطق معقولاً؛ إذا كان الناس يحبون الأخبار الموثوقة وآراء الخبراء ومقاطع الفيديو الممتعة، فيجب أن تحدِّد هذه الخوارزميات مثل هذا المحتوى عالي الجودة. لكن “حكمة الجماهير” تضع افتراضاً رئيسياً، ألا وهو أن التوصية بما هو شائع سيساعد على ظهور المحتوى عالي الجودة.

خضع هذا الافتراض لاختبارٍ من خلال دراسة خوارزميةٍ تصنِّف العناصر باستخدام مزيجٍ من الجودة والشعبية. ووُجِدَ أنه بشكلٍ عام من المُرجَّح أن يؤدِّي الانحياز الشعبي إلى خفض الجودة الإجمالية للمحتوى. والسبب هو أن المشاركة ليست مؤشِّراً موثوقاً على الجودة عندما يتعرَّض عددٌ قليلٌ من الأشخاص لأحد العناصر.

وفي هذه الحالة تولِّد المشاركة إشارةً صاخبة، ومن المُرجَّح أن تقوم الخوارزمية بتضخيم هذه الضوضاء الأوَّلية. وبمجرد أن تصبح شعبية عنصر منخفض الجودة كبيرةً بما يكفي سيستمر تضخيمها.

لكن الخوارزميات ليست هي الشيء الوحيد الذي يتأثَّر بانحياز المشاركة، بل يمكن أن يؤثِّر على الأشخاص أيضاً؛ تُظهر الأدلة أن المعلومات تنتقل عبر “عدوى معقدة”، ما يعني أنه كلَّما زاد تعرُّض شخصٍ ما لفكرةٍ عبر الإنترنت زاد احتمال تبنيها وإعادة مشاركتها. وعندما تخبر وسائل التواصل الاجتماعي الناس بأن عنصراً ما ينتشر بسرعة، فإن تحيُّزاتهم المعرفية تبدأ وتُتَرجَم إلى دافعٍ لا يُقاوَم للانتباه إليه ومشاركته.

الخوارزميات تتفاعل مع المحتوى
الخوارزميات تتفاعل مع المحتوى

تفشل “حكمة الجماهير” لأنها مبنيةٌ على افتراضٍ خاطئ بأن الجمهور يتكوَّن من مصادر متنوِّعةٍ ومستقلة. لكن هناك أسباب عديدة تشير إلى أن هذا ليس هو الحال.

أولاً، ميل الناس إلى الارتباط بأشخاصٍ متشابهين يجعل دوائرهم على الإنترنت ليست شديدة التنوُّع. والسهولة التي يمكن لمستخدم وسائل التواصل الاجتماعي من خلالها إلغاء صداقة أولئك الذين يختلفون معه تدفع الناس إلى الانخراط في مجتمعاتٍ متجانسة، وغالباً ما يُشار إليها باسم “غرف الصدى”.

ثانياً، نظراً إلى أن أصدقاء العديد من الأشخاص هم أنفسهم أصدقاءٌ لبعضهم البعض، فإنهم يؤثِّرون على بعضهم البعض. أثبتت تجربةٌ شهيرة أن معرفة الموسيقى التي يحبها أصدقاؤك تؤثِّر على تفضيلاتك العلنية. ولهذا فإن رغبتك الاجتماعية في التوافق تشوِّه حكمك المستقل.

ثالثاً، يمكن التلاعب بالإشارات الخاصة بالشعبية. وعلى مدى عدة سنوات طوَّرَت محرِّكات البحث تقنياتٍ متقدمة لمواجهة ما يسمى بـ”مزارع الروابط” وغيرها من المُخطَّطات للتلاعب بخوارزميات البحث. ومن ناحيةٍ أخرى بدأت وسائل التواصل الاجتماعي تتعرف على نقاط الضعف الخاصة بها.

19