شابة مصرية تصدر قاموسا يطوّع الحديث بالنوبية

حفصة أمبركاب حاولت من خلال قاموس "كوما وايدي" أي "حواديت زمان" إطلاع المصريين والسياح على اللغة النوبية والمحافظة عليها من الاندثار.
الأحد 2020/02/23
لا شيء يندثر ما دام الاهتمام موجودا

شابة من إحدى القرى النوبية بمصر تصدر قاموسا حاولت من خلاله إطلاع المصريين والأجانب على اللغة الشفاهية المتداولة بين النوبيين، وتطمح إلى تقديم نسخة أخرى تُضمنها كلمات لم يعد النوبيون أنفسهم يستعملونها، بهدف توثيقها حفاظا عليها من الاندثار.

القاهرة – تكللت جهود الشابة النوبية حفصة أمبركاب في إحياء وتوثيق اللغة النوبية الشفاهية للمحافظة عليها من الاندثار، بالنجاح من خلال جمعها لـ230 كلمة نوبية وتدوينها بالحروف في قاموس، تقابلها ترجمة عربية وإنجليزية وإسبانية.

وقُبل قاموس أمبركاب بالترحاب والإعجاب من قِبل أهالي النوبة الذين فوجئوا بوجود كلمات كانت قد اندثرت بالفعل ولم تعد متداولة بين أغلب النوبيين، حتى أن ترديدهم لهذه العبارات أظهرهم وكأنهم يتعلمون بعض الأسماء لأول مرة.

وقالت أمبركاب لـ"العرب"، إن مشروعها الذي ولد بالمصادفة جاء منبثقاً من مشروع آخر للحكي عن التراث النوبي في مقاطع مصورة تمهيداً لتحويلها إلى فيلم وثائقي.

وأشارت إلى أن القاموس المعنون بـ”كوما وايدي”، أي “حواديت زمان”، استهدف في مرحلته الأولى أهالي النوبة أنفسهم، على أن يتوسع مستهدفاً سكان مصر كلها والأجانب.

قاموس “كوما وايدي” يلقى رضا النوبيين للانفتاح على تراثهم
قاموس “كوما وايدي” يلقى رضا النوبيين للانفتاح على تراثهم

طبعت أمبركاب على نفقتها الخاصة عددا محدودا من النسخ، وزعتها على النوبيين والسياح وطلبت ملاحظاتهم كوسيلة لتطوير القاموس، وجاءت ردود الفعل في غالبيتها إيجابية ومحفزة، عدا واحدا رأى في اللغة النوبية خصوصية لا يجب أن تنفتح أو تصبح سلعة.

واستوقفت هذه الملاحظة الشابة النوبية لبعض الوقت لكنها سرعان ما انتهت إلى أن اللغة جسر للتواصل، والانغلاق سيؤدي مع مرور الوقت إلى اندثار النوبية بين النوبيين بعد تراجع الحديث بها.

وأوضحت أمبركاب أن شباب النوبة من المتواجدين في القرى النوبية لا يتحدثون بهذه اللغة طوال الوقت خوفا من التنمر، كما أن إتقان الحديث بها عبر لكنة خاصة عند الحديث بالعربية يستدعي تنمر غيرهم، مثل الأجنبي حين يتحدث العربية فتخرج “مكسرة” بالتعبير العامي.

وانطلاقا من تلك القناعة، بالإضافة إلى عجز أمبركاب عن فهم معاني بعض الكلمات عند سمعها لقصص كبار النوبة وعجائزها، قررت إصدار القاموس، إلى جانب الاستمرار في محاولة تقديم نسخة مطورة تضم الحروف النوبية القديمة.

فريق قاموس النوبة
فريق قاموس النوبة

وتعد اللغة النوبية من اللغات الشفاهية التي يتناقلها الأهالي فقط عبر السمع، ولا يستخدمونها في الكتابة سوى بطرق متحايلة، بأن يُكتب منطوق الكلمات بحروف أخرى، لكنها تظل محاولة غير دقيقة، حيث يشترط تدوين لغة وجود قواعد حاكمة وحروف خاصة تعبر عن أصواتها.

واستخدمت أمبركاب تلك الحيلة في تدوين لغتها الشفاهية، بمساعدة عدد من أصدقائها من دارسي اللغات، على اعتبارها الوسيلة الأيسر لتفاعل غير النوبيين من العرب الذين سيلجأون إلى قراءة المنطوق بالحروف العربية، أو الأجانب الذين سيستعيضون عنها بالحروف الأجنبية.

وأكد العالم الأثري الدكتور مختار خليل كبارة، أن اللغة النوبية عرفت كغيرها من سائر اللغات استعمال الحروف الأبجدية في الكتابة والتدوين، في فترة زمنية معينة، كما هو ثابت في بعض المخطوطات والوثائق المحفوظة الآن في المتحف البريطاني في لندن، ومتحف برلين في ألمانيا، والمتحف القبطي في القاهرة، وترجع هذه المخطوطات إلى فترة العصر المسيحي في النوبة في القرن السادس.

وكشف كلام كبارة، في كتاب له حول اللغة النوبية، أن قاموس الشابة النوبية ليس الأول، حيث يرجع تاريخ تدشين أول قاموس نوبي إلى مطلع القرن الماضي، للمستشرقين النمساوي ليو رانيش، والألماني ريتشارد ليبسيوس، اللذين زارا النوبة وجمعا الأساطير والحكايات وما شابه ذلك من الأدب الشعبي، وقاما بترجمة ذلك واستنباط قواعد اللغة.

سائحة تتصفح القاموس النوبي
سائحة تتصفح القاموس النوبي

وكانت الحكايات والأساطير الفاعل الرئيسي في حفظ اللغة النوبية قديماً وحديثاً على اعتبارها المنهل الوحيد للغة غير مكتوبة، لتعيد حفصة السير في الطريق ذاته الذي سبقها فيه المستشرقان، كأول فتاة نوبية، دون أن تعلم بجهود السابقين.

ومن غير المؤكد وجود نسخ من القاموس القديم الذي أورد ذكره كتاب اللغة النوبية، وإن وجد فمن المرجح أن يكون للغة أخرى اندثرت بالفعل أو توارت لصالح مصطلحات أحدث.

كما أنه لا يقلل من جهد الشابة النوبية التي استهدفت بجهودها إقامة جسر للتواصل، وإثراء الأوساط الأكاديمية، إذ تعد الفتاة رسالة الماجستير في معهد الدراسات الأفريقية بالقاهرة عن توظيف التراث في جلب عائدات اقتصادية بتجاربها الميدانية وقاموسها.

الشابة النوبية تشرح قاموسها وسبب تأليفه للحفاظ على لغتها من الاندثار
الشابة النوبية تشرح قاموسها وسبب تأليفه للحفاظ على لغتها من الاندثار

ولم تكن تجربة أمبركاب الأولى في العناية بالكتابة دون الاكتفاء بالنطق، إذ جرى الأمر ذاته مع الفنانة التشكيلية عبير فوزي، حين زارت واحة سيوة، لأجل مشروع فني يعنى بنقل التراث السيوي في صورة حكي ولوحات.

ورغم أن الأهالي أخبروها بعدم وجود رموز خاصة للغة السيوية التي تشبه الأمازيغية، بحثت الشابة حتى حصلت على تطبيق عبر الهاتف يقدم تدوينا لهذه اللغة في صورة رموز.

وأوضحت فوزي لـ”العرب”، أن الرمز يضيف جمالا للوحة، ويستفز المشاهد في تدقيقه ومحاولة فهمه أو على الأقل تأمله، وكلما استغرق العمل الفني وقتاً في نظر المشاهد كان أكثر جودة وأعلى تقييماً من ناحية المستوى الفني.

Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail
24