ستيوارت هول: أجمل ما أنجزنا في الكاريبي تخريب اللغة الإنجليزية

يعتبر ستيوارت هول (Stuart Hall) مفكرا بارزا ومؤثرا على مستوى خارطة الفكر العالمي، وهو المؤسس الفعلي للدراسات الثقافية في الغرب إلى جانب ثلاثة أقطاب آخرين وهم ريموند وليامز وإدوارد بالمر طومسون وريتشارد هوغارت. وفي الحقيقة فإن ستيوارت هول هو الذي تمكن من تطوير الجهاز النظري لهذا التخصص، كما أنه هو مؤسس مجلة “اليسار الجديد” التي لعبت دورا مفصليا في تجديد فكر اليسار في بريطانيا. لقد أنجز عددا من الكتب بمفرده أو بالاشتراك مع دارسين ومفكرين آخرين منها على سبيل المثال فقط “مسائل الهوية الثقافية” و”الاستهلاك والهوية في العمل” و”تكوينات الحداثة” و”الحداثة ومستقبلها”، وفضلا عن ذلك فقد نال مجموعة من شهادات الدكتوراه الفخرية من جامعات عالمية في أميركا وبريطانيا وجنوب أفريقيا وهلم جرا.
قبل وفاته بقليل زرت ستيوارت هول وكانت تلك زيارتي الثالثة والأخيرة له في منزله بلندن، ودار بيننا حديث طويل حول سيرته الذاتية وتكوينه الثقافي والفكري والسياسي، ومساهمته الأساسية في تأسيس وتطور الدراسات الثقافية التي أصبحت تقليدا فكريا أكاديميا عالميا، وننشر هنا هذا الجزء من الحديث المتشعب الذي دار بيننا.
في البداية سألناه أن يسلط الضوء على العلاقة بين تجربته كإنسان وبين خياراته السياسية والفكرية، قبل وبعد رحيله من بلده جاميكا بمنطقة الكاريبي إلى بريطانيا في الخمسينات من القرن الماضي، وأن يضيء العوامل التي أدت إلى ارتباطه بالموقف اليساري، وبالدراسات الثقافية في إطار استراتيجيته لنزع الاستعمار عن المستعمر (بفتح الميم) والتمركز الغربي والعادات المتصلة بكل هذا فقال “حسنا، إنه جميل أن تقول كل هذا عني، وبطبيعة الحال آمل أن هذا هو ما يضيفه عملي إذا كان يعني أي شيء، ولكن أستطيع أن أقول لك إن هذا هو ما كنت أقصده دائما. إنه ينبغي أن تفهم أنني أصف الآن الخلفية التي آتيت منها”.
لن أكون إنجليزيا
حسنا، لقد جئت إلى إنجلترا لكي أواجه حقيقة مصدر كثير من التشويهات التي عشت خلالها. لقد صرت وجها لوجه مع جذر، أو لنقل مفصل جذر، النظام الكولونيالي. كان جوابي الأولي هو أن أعمق صلاتي سياسيا. انخرطت في دراسة الأدب، ولم أدرس أبدا العلوم الاجتماعية ولا أملك شهادات في هذا التخصص. نعم، درست الأدب ولكنني كنت مهتما بالثقافة، وأريد أن أقول إن اهتمامي بالثقافة في حد ذاته هو ثمرة لكل الذي وصفته لك.
كما ترى فإن القضية التي واجهتني ثقافيا حينما صرت في إنجلترا هي أنني لا يمكن أبدا أن أكون إنجليزيا. إذن فمن أنا؟ حسنا، فأنا جايميكي. حسنا فماذا يعني ذلك؟ كما تعرف فجزء مني أفريقي، وجزء كريولي، وجزء إنجليزي، وجزء أوروبي، ولغتي أوروبية إنجليزية، ولكن قلبي يخفق بأنغام مختلفة. فما هو هذا؟ بدأت أقرأ عن ثقافتي ومن بعيد ومن هنا وليس من هناك.
بطبيعة الحال فإن الشيء الأكثر أهمية والذي دفعني في ذلك الاتجاه هو الهجرة، لأنه في الخمسينات من القرن الماضي فإن كل أولئك الناس السود الذين اعتقدت أنني تركتهم ورائي في المنطقة الاستوائية كانوا قد ركبوا على متن الباخرة وأتوا يتبعونني في نفس الباخرة التي حملتني إلى هنا وظلت تحملهم أيضا.
ذهبت إلى محطة بادينغتون وكان هناك الآلاف منهم. سألوني: ماذ تفعل هنا؟ فقلت لهم إنني جئت من كينغستون (عاصمة جاميكا). حسنا، وكم ستبقى؟ أجبتهم: لا أعرف، أنا جئت لكي أعيش حياة أفضل مثلكم تماما. وهكذا تساءلت: من هم هؤلاء الناس الذين أنا واحد منهم؟ ومن نحن؟ وكيف سأبدأ في التعامل مع هذه الثقافة؟ إنها ليست أفريقية فقط، ولكنها تملك جذورا عميقة في أفريقيا ولكن ذلك القسم الصغير من الثقافة لا يستطيع أن يقول اسمه. إنها أوروبية جدا ولكن لا تستطيع أبدا أن تنتمي إلى أوروبا. إنها نوع من الكريول ولكنها نوع مختلف من الكريول. كما تعرف فإنني بدأت أحاول أن أفكَ اللغز عن جذري الثقافي.
لتطوير النقاش حول ماهية لغز ثقافة (الكريول – Creole) النموذجية في منطقة البحر الكاريبي والتي هي خليط من أصول فرنسية وإسبانية وبرتغالية وبريطانية و/ أو هولندية، وعناصر أفريقية وثقافة السكان الأصليين في الأميركتين، قلت لستيوارت هول إن من الملاحظ عليه هو أنه يقف داخل هذه الثقافة وفي الوقت نفسه فهو يتحرك خارجها، فلماذا هذا التأرجح عنده، فأوضح “إنها تخلق لدي شعورا سيبقى معي حتى نهاية حياتي، وهو الشعور أنني داخل وخارج الثقافة وأنني هنا ولست هناك، بمعنى أنني في عالمين أقوم بالتوسط بينهما، وأعني أن هذا هو نوع من الذهنية العاطفية التي تحدثت عنها مسبقا في محاولة لفك لغز الثقافة الكاريبية وطبيعة خلفيتي الثقافية قبل الدراسات الثقافية”. ثم واصل قائلا “إنها ما أدعوه بلحظة باهيا في الدراسات الثقافية، أي الدراسات الثقافية التقليدية. هل تعرف أين توجد باهيا؟ إنها في شمال البرازيل”. قاطعت ستيوارت هول واستدرجته ليوضح مدى تأثير باهيا في شمال البرازيل عليه وعلى ولادة الدراسات الثقافية، فقال “أولا، أسميها هكذا لأنني قدمت مداخلة في مدينة باهيا البرازيلية تحت عنوان ‘أفكار المنزل من بعيد’، وثانيا لأن التفكير حول الثقافة الكاريبية وقراءة تضاريسها قاداني إلى قراءة الكثير عن البرازيل، ولأن هناك كثيرا من الأنتروبولوجيين البرازيليين أمثال روجر باستيد الخ.. إن البرازيل كما تعرف هي مزيج كلاسيكي لكل من أوروبا وأفريقيا والأهالي، وهلم جرَا. لقد كانت تلك اللحظة مهمة جدا في قراءاتي وفي محاولتي لفك لغز الثقافة الكاريبية. أقول فقط إن هذا قد حدث قبل ولادة الدراسات الثقافية الإنجليزية، وأقول من قلبي إن مسألة العقل، ومسألة الثقافة عندي قد تأشكلتا مسبقا. فأنا بصدد العمل على قضية الثقافة، وكنت مهتما بالأدب جزئيا بسبب ما يقوله عن الثقافة الواسعة”.
الأدب كموشور
ستيوارت هول: القضية التي واجهتني ثقافيا حينما صرت في إنجلترا هي أنني لا يمكن أبدا أن أكون إنجليزيا. إذن فمن أنا؟ حسنا، أنا جايميكي. ولكن ماذا يعني ذلك؟
أنا لست دارسا أدبيا على نحو مفصل فقط، بل أنا مهتم بالأدب كموشور مهم أفهم من خلاله الثقافة، والموسيقى، بنفس الطريقة، والفنون المرئية بالطريقة نفسها، والرسم، والأغنية الشعبية حيث أن كل هذه الأشياء هي بمثابة مداخل إلى طبيعة الثقافة الاستعمارية. إذن، ما الذي يأتي بعد ذلك؟ هو أنني أصبحت اشتراكيا أتحالف سياسيا مع اليسار المناهض للإمبريالية، وصرت أتعامل مع ماركس؟ لم أكن أبدا ماركسيا أرثوذكسيا لأن الاهتمام بالثقافة قد جعلني أتحرك في الداخل وفي الخارج معا، وأعتقد أنك تفهم ما أعنيه بهذا وهو أنني مسلح بالمنظور النقدي. أنت قد أمسكت بي جيدا بخصوص هذه القضية.
أثناء تلفظ المفكر ستيوارت هول بعبارة عن تواجده داخل وخارج الثقافة رأيت الإصرار في عينيه أن يوضح ذلك أكثر “إنني أوجد في الداخل وفي الخارج معا لأسباب وجيهة وليس من أجل اللعب فقط، لأن الثقافة هي المقولة الأقل فهما عند ماركس الذي يشرح حياتك، ويشرح عمليات الرأسمال، ويشرح طبيعة العلاقات الطبقية الرأسمالية، وتشكل السوق العالمية ولكن ليس الثقافة”.
وهنا علقت على توضيحات ستيوارت هول أنَ أنطونيو غرامشي كان واعيا بهذه المشكلة فوافقني قائلا “نعم، ولهذا السبب أصبحت غرامشيا، وذلك لأن غرامشي هو الماركسي الذي فهم هذه المشكلة حقيقة. إنَ الكتلة التاريخية، الهيمنة، والثورة السلبية كما تعلم، كلها مفاهيم غرامشي. لكن، وكما تعلم هذا لأن غرامشي فهم مشكلات الماركسية الناشئة عن قاعدة ثقافية اقتصادية. لقد أوضح بنفسه العديد من المفاهيم لتمكيننا من التفكير في الثقافة ضمن إطار ماركسي واسع، وعندما صار هذا موجودا، أصبحت واحدا من الذين يفكرون في إطار هذا الفهم. ولهذا فقد مكَننا كل من غرامشي وألتوسير من التفكير في هذا الأمر.
لقد تحدث غرامشي عن الثقافة، وتحدث التوسير كثيرا عن العلاقة بين الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي حقيقة وعن الاقتصادي والسياسي والثقافي، وعن فكرة الحتمية، والتضافر Overdetermination على أساس الممارسات الثلاث بدلا من حتمية الاقتصاد.
ولذلك فقد كانت هذه هي حجتي الطويلة مع ماركس، إلخ. لكنني كما تعلم أقف على اليسار من الناحية السياسية، وأتماهى مع المضطهدين سواء كانوا محليين ضمن الحركة العمالية أو كانوا من فقراء العالم الثالث. إذن، فأنت ترى أن طريقي إلى اليسار، وطريقي إلى الجدل مع الماركسية، وطريقي إلى الدراسات الثقافية قد أتت من كل هذا، ويمكنني تتبع انغماس هذه الطرق في التجربة الاستعمارية، نعم، لقد أصبحت نوعا مختلفا من الماركسيين بسبب التجربة الاستعمارية، ونوعا مختلفا من الأشخاص المهتمين بالدراسات الثقافية بسبب انشغالي بمحاولة فهم الثقافة الاستعمارية”.
تخريب الإنجليزية
حال ذكر ستيوارت هول للثقافة الاستعمارية سألته كيف تمكَن من الانتقال من ربط الهوية بلون البشرة إلى ربطها باللغة، وإلى أي مدى يمكن للغة الاستعمارية أن تبني هوية المستعمر (بفتح الميم)؟ فأجاب “أعتقد، أنه ليست اللغة أو أي شيء آخر. فاللغة هي أحد الأبعاد العديدة التي يتم من خلالها وضع مثل هذه الأسئلة حول الهوية. وأخشى أنه ليست لدي إجابة جاهزة عن هذا السؤال الهام. لدينا شعراء وروائيون يكتبون بلغة الكريول، ولدينا آخرون، مثل ديريك وولكوت الذي يكتب باللغة الإنجليزية الجميلة والكاملة.
في الواقع فقد جادلت في مقال كتبته بعنوان ‘Creolization’ أنه إذا استمعت إلى إيقاعات نثر الشاعر دريك وولكوت فإنك تجد فيها إيقاعات آتية مباشرة من الكلام العامي الكاريبي، ورغم أنها مشبعة بفهم داخلي رائع للغة الإنجليزية، وللشعرية الإنجليزية، لكن هناك الإيقاعات التي تأتي مباشرة من العامية الكاريبية.
لذا، فإنه حتى عندما يتم استخدام اللغة الاستعمارية، فإنها تكون معرضة للإزعاج، وللتحريف وللتفكيك، ولجعلها إيقاعية بواسطة شيء آخر، إلخ. لذا، وكما تعلم، فأنا لا ألزم أحدا بأي شيء، وهذا كل ما أقوله.. بعض الناس يكتبون جيدا ويلتقطون شيئا بهذه الطريقة، وبعضهم الآخر يكتب بشكل أفضل برفض ذلك وبتغذية العامية. إنه لأمر صعب بالنسبة لنا في منطقة البحر الكاريبي، وخاصة في منطقة الكاريبي الناطقة باللغة الإنجليزية، لأنه ليست لدينا لغة وطنية أخرى. لدينا لغة الكريول، لكن ليست لدينا لغة وطنية.
أما اللغات الأفريقية فقد تم تحطيمها عمدا. لقد أرسلوا أشخاصا من نفس الخلفيات اللغوية إلى جزر مختلفة ودول مختلفة في الجنوب، لأنهم اعتقدوا أن اللغة هي نوع من التمرد. لذلك أجبروا الناس على تعلم التحدث باللغة الإنجليزية.
إنهم يتحدثون لغة السيد، لأن ‘الإيبو’ لا يمكنه التواصل مع شخص من منطقة أخرى غير منطقته بنفس اللغة. إنهم استخدموا ذلك عمدا لتفريق اللغة في منطقة البحر الكاريبي. إن الجزائر مختلفة لأنه لديكم لغة وطنية بديلة وهذا يصلكم بعالم لغوي كامل آخر، أما نحن فليس لدينا ذلك. لذا فقد كان علينا أن نفعل شيئا آخر وهو تخريب اللغة الاستعمارية من الداخل. هناك أنواع مختلفة من خطاب الكريول، والباتوا، وصولا إلى وولكوت على طول الطريق إلى الاستخدام الأكثر روعة للغة الاستعمارية، التي هي بحد ذاتها تخريب. وكما تعلمون فإن الأمر برمته هو مجال لما أسميه بالخرق والترجمة في اللغة”.