منير بهادي: الثقافة العربية تركّز على الفلكلور

الباحث الجزائري يؤكد أن أغلب الكتابات الفلسفية في الجزائر مستعارة، وأن الدراسات النقدية في مجال الفلسفة ابتعدت عن البعد النظري المتعلق بالتساؤل عن الإبداع.
الاثنين 2020/04/27
المثقف الجزائري بلا تأثير (لوحة للفنان محمد إيسياخم)

تعاني الجزائر كما هو حال أغلب البلدان العربية من غياب النخب الثقافية والفكرية على الحياة العامة، وتراجع تأثيرها النظري والفعلي في مجتمعاتهم، وربما لذلك أسباب مختلفة نتحدث فيها مع الباحث وأستاذ الفلسفة الجزائري منير بهادي الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار.

منير بهادي أستاذ فلسفة بجامعة وهران 2 ومساهم نشط في المشهد الفلسفي الجزائري بأبحاثه، وإشرافه على أطروحات الدراسات العليا وإدارة مخبر الفلسفة وتاريخها بالجامعة المذكورة آنفا، والمشاركة بالمداخلات في الندوات الفلسفية بالجزائر وخارجها، وقد صدرت له عدة كتب منها “الفكر العربي :الاستشراق وأسئلة المنهج” و”المخيال والتاريخ”.

وفي الآونة الأخيرة علمت أن كتابه “الاستشراق والعولمة الثقافية” صدر في طبعته الثالثة، حيث يبدو تركيز الباحث جليا على ظاهرة الاستشراق، التي بدأنا منها حوارنا معه.

الاستشراق والأيديولوجيا

نسأل بهادي أولا عن سبب تركيزه على تحليل ظاهرة الاستشراق بعيدا عن التحيز الأيديولوجي، فيوضح قائلا “يعود اهتمامي بالاستشراق في دراساتي الفلسفية إلى رؤيتي له كقضية منهجية ومعرفية ضرورية للمختص والمهتم بالفلسفة والمثقف على العموم لأن الاستشراق ينبهنا إلى مسألة الإبداع في الفلسفة والعلوم الإنسانية، أي كيف يمكن تحوَيل مجال ثقافي وحضاري إلى موضوع للدراسة والبحث”.

وفي هذا السياق أبرز البروفيسور بهادي أن “أول شرط في الإبداع هو ابتكار وتحديد موضوع جديد، وهذا يحيلنا إلى مسألة أساسية في التربية والتكوين الذهني القائمين على الفعل ورد الفعل، أي كيف تتشكل القدرات وتنمو الملكات الذهنية والتفكير على أساس الفعل الأصيل الجديد المنتج إبداعيا، أي على أساس الفعل المؤسس للفكر الذي يتجاوز التقليد والتكرار والاستهلاك والعجز”.

منير بهادي: لا وجود للعقل المبدع في غياب الحرية بوصفها ماهية وجود الإنسان
منير بهادي: لا وجود للعقل المبدع في غياب الحرية بوصفها ماهية وجود الإنسان

ويلاحظ الدارس منير بهادي أن المشكل الذي ما فتئ يتكرر هو عدم الالتزام بهذه الرؤية في التعامل مع ظاهرة الاستشراق مما أفضى إلى نتائج سلبية حيث أنه “قد تم تعامل الدراسات الجزائرية مع قضايا الخطاب الثقافي بشكل عام والاستشراق بشكل خاص تعاملا أيديولوجيا سطحيا وأحيانا ساذجا ينم عن مجرد الرغبة في التموقع والاستسلام للكسل”.

ثم يتابع مقدما البديل قائلا “إنه ينبغي تصور الاستشراق كعنوان للقضايا والتساؤلات المنهجية في المدى الثقافي بالجزائر وفي العالم العربي، بعيدا عن هواجس الخوف المحبطة للإبداع وللحداثة وللمواطنة وللديمقراطية، ولعديد من المفاهيم الفلسفية التنويرية المؤسسة للدولة المعاصرة. ففي رأيي أن هذه المخاوف التي سادت ولا تزال تسود مجال الدراسات الاستشراقية في العالم العربي تعود بالدرجة الأولى إلى نمط التصورات الأيديولوجية التي نشأت حول الاستشراق، وأدت هذه التصورات مع الأسف إلى عبادة أوثان فكرية معيقة للإبداع، وللتفكير العقلاني الحرّ في القضايا والمفاهيم الفلسفية، التي تبنى على أساسها الدولة المعاصرة”.

ويضيف “في هذا السياق أنا أعتقد أنه لا وجود للعقل المبدع في ظل غياب الحرية بوصفها ماهية وجود الإنسان، علما أن كل ما يحدث على المستوى الفردي أو الجماعي وفي كل المجالات والفضاءات الثقافية والفكرية والفلسفية والسياسية مرده يكون باستمرار إلى نوعية التجلي الوجودي للحرية في الحياة الفردية والجماعية”.

وهنا يوضح بهادي أنه يبدو له “أن الدراسات النقدية في مجال الفلسفة والمجالات المجاورة لها في الجزائر، قد ركزت اهتمامها على أشكال الخطاب، وابتعدت عن البعد النظري المتعلق بالتساؤل عن الإبداع في ذاته، ولذلك نجدها قد قرأت الكثير من النصوص المنتحلة أو المستعارة على مستوى لغتها المفاهيمية واعتبرتها نصوصا إبداعية وهي ليست كذلك. وباختصار فإنَ الموضوع الذي نختاره للتفكير فيه والقيام بدراسته ينبغي أن ينظر إليه كنموذج لابتكار تصور جديد حوله”.

تقلص دور النخبة

التصورات الأيديولوجية أدت إلى عبادة أوثان فكرية معيقة للإبداع
التصورات الأيديولوجية أدت إلى عبادة أوثان فكرية معيقة للإبداع

عن تقييمه للوضع الفكري الجزائري وتياراته المختلفة وللعلاقة بين المثقفين الجزائريين المنتجين للفكر وبين أزمات التحول السياسي والاجتماعي يقول بهادي “يبدو لي أني قد قدمت لك تصوري العام عن الكتابة الفكرية والفلسفية في الجزائر، وذلك انطلاقا من أن الخطابات والتيارات الملحوظة في المشهد الثقافي والفكري الجزائري قد تختلف في الشكل وتتفق في المضمون. في تقديري فإنَ أغلب الكتابات الفلسفية الجزائرية هي من حيث اللغة المفهومية منحولة ومستعارة”.

ويتابع “في هذا الخصوص أوضح أنه مهما بلغ مستوى العالمية في المجال المفهومي والنظري فلا يمكن تجاوز الخصوصية الثقافية والحضارية، والواقع الراهن في مجال البحث. لهذا فإن الباحثين الجادين هم بالضرورة باحثون مبدعون من حيث أنهم يحاولون نحت مفاهيم وأدوات جديدة لمقاربة وقراءة مجالهم البحثي. انطلاقا من هذا التصور قلنا إن الكتابة الفلسفية غير المنجزة بمفاهيم جديدة من نحت الباحث نفسه هي اجترار لمفاهيم وأدوات بحجة الكونية والعالمية في الوقت الذي يجب أن يكون وجودها في البحث من أجل الحوار لا من أجل التقليد”.

ويقول الباحث “في الماضي  القريب، مثلا، كان عندنا في الجزائر التيار الماركسي الذي كان يعتمد المفاهيم والمقولات المستعارة من الفكر الماركسي وأصبح الآن خافتا لا يكاد يسمع له صوت. وهناك التيار الإسلامي وهو غير مبدع أيضا ويشبه في هذا التيار الماركسي لأنه غير مبتكر بل هو يستعير الأفكار والتوجهات من المشرق العربي. أما الكتابات الفلسفية الأخرى فهي تعتمد على المفاهيم والنظريات الفلسفية الغربية مثل مفاهيم هوسرل وهايدغر ودريدا وغيرهم”.

أما عن سؤالي حول العلاقة بين المثقفين الجزائريين المنتجين للفكر وبين أزمات التحول السياسي والاجتماعي فيقول “هناك فكر جاد على قلته ولكنه لا يقرأ ولا يعار له الاهتمام. والسائد في الساحة الجزائرية هو المفهوم الفلكلوري للثقافة وذلك منذ الاستقلال ولقد عمق هذا الفارق بين النخبة والنظام، ومن الملاحظ أيضا هو تقلص دور النخبة منذ تسعينات القرن الماضي حيث أنها تأثرت بالكساد العام الذي أصاب الثقافة ومجالات أخرى غير ثقافية. وفي وقتنا الراهن أرى أنه على المثقفين الجزائريين استثمار وسائل التواصل الاجتماعي التي تعتبر وسائط ثقافية بامتياز للمساهمة في تنمية الوعي والذوق الحضاري وهذا ما قد بدأت مظاهره واضحة للعيان في ظاهرة الحراك الشعبي”.

أما ما يتعلق بظاهرة غياب تأثير ما ينتج من فكر في الجزائر على البنية الثقافية التقليدية التي تفرز الأزمات المتتالية والمعقدة، فيوضح الأستاذ منير بهادي قائلا “أتساءل أحيانا وأتأمل تصريحات وأقوال وتنظيرات بعض الزملاء والأصدقاء الجزائريين وغير الجزائريين الذين أكن لهم الاحترام والمحبة. إنني أجد هؤلاء يرددون قائلين إن العالم بعد كورونا لن يكون كما كان من قبل. فأنا من جهتي لا أتصور نخبة من هذا النوع أن يكون لها تأثير خارج الحلقات الضيقة بما في ذلك المجال الأكاديمي. إني بصدد إعداد بحث حول الفلاسفة والسياسة واستوقفتني ملاحظة وهي أن النظريات الفلسفية التي غيَرت وجه العالم كان للفلاسفة تأثير مباشر في تطبيقها في مختلف المجالات، أما الافتتان بالأيديولوجيات وترديد المقولات والمفاهيم دون استيعاب وفهم تاريخي لها فلا يمكن أن ينتج عنها تأثير إيجابي يذكر“.

15