أزمات متواصلة للمجلات الثقافية والفنية في الجزائر

المجلات الثقافية منابر هامة في المشهد الثقافي لأي بلد، فهي التي تخلق حراكا ثقافيا وفنيا، كما تساهم في الكشف عن أسماء جديدة، وفي ترسيخ حيوية على الإبداع أيضا. لكن ورغم نجاح بعض المجلات الثقافية العربية في خلق حركية هامة، فإن البعض الآخر بقي محبوسا في دوائر العلاقات والمحاباة، وخاصة المجلات التابعة للدولة.
في الجزائر عدد لا يستهان به من المجلات الثقافية والفنية والأدبية التابعة للجمعيات، ومن المجلات الأكاديمية المحكّمة التابعة لمخابر الجامعات نذكر منها على سبيل المثال فقط “دراسات فلسفية” للجمعية الفلسفية الجزائرية، و”مقدمات” لمخبر الفلسفة بجامعة وهران ومجلتي “الخطاب” و”تمثلات” بجامعة تيزي وزو، وهناك مجلات تصدرها المجالس العليا مثل مجلتي “معالم” و”اللغة العربية” التابعتين للمجلس الأعلى للغة العربية، و”البصائر” التي يصدرها المجلس الأعلى للشؤون الدينية، و”الجيش”، و”المثقف”، و”المعابر” التي أسسها المطرب القبائلي الشهير آيت منقلات.
وفي الماضي القريب عرفت الحياة الثقافية الجزائرية مجلات أدبية وفكرية وفنية شهرية ودورية منها؛ الأصالة، الثقافة، وآمال، والمجاهد الثقافي، والثورة والأدب، والمسرح، ورؤية التابعة لاتحاد الكتاب الجزائريين وهلمّ جرا.
ثمن الذهنية الارتجالية
يلاحظ أن كل هذه المجلات المذكورة وغيرها لم تقدر أن تتحول إلى منابر ثقافية وفكرية وفنية ذات صيت عربي شامل ولم تتمكن من استقطاب الأدباء والمفكرين والفنانين الكبار في الوطن العربي إلا بعض الأسماء القليلة التي تعد على أصابع اليد، وبسبب ذلك لم تخترق تلك المجلات حدود الجزائر لتنتشر في المنطقة المغاربية وفي المشرق العربي، وجراء ذلك فإنها بقيت محلية ولم يكتب لها أن تنال الشهرة أو تحدث التأثير المرجوّ في الحياة الفكرية والأدبية والفنية العربية المعاصرة، مثلما كان حال مجلات “الآداب”، و”العربي”، و”الفكر المعاصر”، و”شعر”، و”مواقف” و”الناقد”، و”الكاتبة”، وغيرها من المجلات العربية الطليعية التي توقفت الآن عن الصدور مع الأسف.
يعني أن مشكلة المجلات الجزائرية تتمثل في كونها لا تملك سياسات تضبط رسالتها وتحدّد وتفعّل دورها الوطني والإقليمي والعربي الشامل. إذن، فهل يمكن أن تصنع أيّ مجلة ثقافية جزائرية راهنة الحدث محليا وخارج حدود الوطن؟
كيف نفسر بذخ هذا اللغط الذي شهدته الساحة الثقافية والإعلامية الجزائرية هذه الأيام، ولا تزال تشهده في صورة ضجة مثيرة على مستوى بعض الصحف الوطنية ووسائل التواصل الاجتماعي، حول المجلة الجديدة التي أصدرتها وزارة الثقافة الجزائرية مؤخرا باسم “انزياحات”؟ وهل ستقدر هذه المجلة الناشئة أن تلعب دورا طليعيا في التأسيس لنهضة فكرية وأدبية وفنية جزائرية متطورة ولها هوية متميزة؟ وما هي ركائز مشروعها؟ وهل توجد ضمن هيئة تحريرها الكفاءات القادرة على ابتكار مشروع ثقافي وفكري وفني جزائري حداثي، تكون هذه المجلة مسرحا لتجسيده على صفحاتها؟ ولماذا لم ينصبّ النقاش حول هذه الأمور الجدية قبل صدورها لتحديد معالم طريقها نحو المستقبل؟
ما يؤسف له أن كل النقاش البيزنطي الذي دار حتى الآن هو حول شرعية اسمها وذلك بسبب تكراره في مجلة “انزياحات” التي أصدرها في اليمن شاعر يمني يدعى فتحي أبوالنصر، والذي احتج على هذا التصرف الجزائري المخالف لقوانين الملكية الفكرية في رسالة موجّهة إلى الرأي العام وجاء فيها “تفأجات بأن وزارة الثقافة الجزائرية تصدر مجلة باسم ‘انزياحات‘ وهو عنوان مجلتي التي أصدرتها في 2010”. وفي رسالة أخرى طالب أبوالنصر وزير الثقافة اليمنية بالتدخل لدى وزارة الثقافة الجزائرية لحسم هذه المشكلة والحفاظ على حقه في ملكية هذا الاسم.
وفي هذا الخصوص يلاحظ أن وزارة الثقافة الجزائرية كان بإمكانها تفادي الوقوع في مثل هذا المطب غير المهني بواسطة استشارة أهل الاختصاص العارفين بأسماء المجلات الموجودة في العالم العربي أو بمطالبة مجموعة المحررين المكلفين بإنشاء هذه المجلة والإشراف عليها بالقيام قبل إطلاق التسمية عليها بالبحث في شبكة غوغل عن قوائم أسماء المجلات المتداولة، وبعد التحريات يمكن اختيار اسم لا يثير أيّ جدل.
ولا شك أيضا أن الضجة المتزامنة مع الإعلان المفاجئ عن أسماء المعينين لإدارة تحرير مجلة “انزياحات” قد طفت على السطح بمثل هذه الحدّة بسبب عاملين أساسين، أولهما يتعلق بالارتجال الناشئ عن محاولة وزارة الثقافة القيام بأيّ عمل لتعبئة الفراغ الناشئ جراء وباء كورونا، وعدم الاستقرار السياسي في البلاد، وثانيهما له علاقة بعدم تشاور الوزارة أولا وقبل كل شيء مع الجمعيات الثقافية والفنية فضلا عن تجاهلها للكثير من الشخصيات البارزة في المشهد الثقافي الوطني، وحتى لاتحاد الكتاب الجزائريين رغم أنه يعاني بدوره من الانقسامات والتفكك منذ مدة طويلة.
الخلاف الجوهري
في الواقع هناك من يفسر الخلاف حول مجلة “انزياحات” بعوامل أخرى منها إسناد إدارتها وتحريرها إلى أشخاص ينظر إليهم بأنهم لم يتمرسوا على تسيير المجلات الأدبية والفكرية، وثمة من يتهم بعضهم الآخر باحتكار هذه المجلة بسبب التواجد في مواقع المسؤولية بوزارة الثقافة سواء بصفة مستشار أو بصفة أمين عام بالنيابة، وفضلا عن ذلك فهناك من ينتقد بعض أعضاء الهيئة المشرفة على التحرير بأنهم جاؤوا من تخصصات أكاديمية تنتمي إلى التعليم العالي، وليسوا ممّا يدعى في الجزائر بأسرة الثقافة الأدبية والفنية.
وفي الحقيقة فإن الخلاف حول هذه الأمور يخفي خلافا جوهريا غير معلن عنه؛ في المقدمة ما يتصل بالصراع حول المناصب الثقافية بوزارة الثقافة وتصفية الحسابات مع المسؤولين السابقين المحسوبين على وزيرة الثقافة السابقة خليدة التومي المسجونة حاليا في سجن الحراش، ومنها ما يتعلق بقضية تناقض مواقف المثقفين الجزائريين تجاه وزارة الثقافة الجزائرية التي يعتبرها المنخرطون منهم في الحراك الشعبي أنها في وضعها الحالي ليست محايدة أو مستقلة وإنما هي مؤسسة تابعة للنظام الحاكم الذي يعتبرونه غير شرعي ويطالبونه بالرحيل.
إن عمليات تعيين الأشخاص على رأس المناصب الثقافية في الجزائر، بما في ذلك المناصب التي تسند على مستوى إدارة المجلات الثقافية والفنية، تخضع غالبا للمعايير السياسية والأمنية وللعلاقات والحسابات الشخصية ولمزاج المسؤولين وهي في مجملها لا علاقة لها بالمعايير التي تحترم الرموز الأدبية والفكرية والفنية والتخصص والكفاءة وأخلاقيات العمل الثقافي والأدبي والفكري والفني.
وفي هذا الصدد فإن سجلات الماضي تكشف أنّ وزارة الثقافة الجزائرية قد تعودت، على مدى سنوات طويلة، على إسناد مسؤولية الإشراف على إدارة وتحرير المجلات التي تصدرها إلى شخصيات إدارية متعلمة وغير محسوبة على الساحة الفكرية والأدبية والفنية، ولقد حدث هذا مرارا وتكرارا، ويمكن لنا ذكر أسماء الشخصيات التي كلفت بالإشراف المباشر على مجلة “الثقافة”، أو مجلة “آمال” المكرسة حينذاك للمواهب الأدبية الشابة، منها على سبيل المثال الراحل عبدالحميد السقاي الذي كان مجرد مدير مركزي ومحب للثقافة وصديق للأدباء والفنانين فقط.
والمفارقة هنا هي أن هذا الرجل قد سيّر مجلة “آمال” التي كانت متخصصة في أدب الشباب تسييرا حسنا.