رحلة في ذاكرة شارع الرشيد

مقاهي شارع الرشيد توالت على ارتيادها أجيال من أدباء العراق وصحافييه وأكاديمييه وفنانيه ولكنها اليوم آيلة إلى السقوط.
السبت 2019/11/23
شارع المثقفين العريق يحتاج إلى الإنقاذ

شارع الرشيد، أشهر شوارع بغداد، بل كان لعدد من العقود، يكاد يكون هو بغداد، وينسب إلى أحد الدبلوماسيين البريطانيين ممن عملوا وأقاموا في بغداد قوله: إن شارع الرشيد يعادل مدينة كاملة متكاملة، بل هو بغداد، وبغداد هي شارع الرشيد، وأستطيع القول، إنني من أوائل الذين قالوا بهذا الرأي، حين أفردت فصلاً في كتابي “المكان في تضاريس الذاكرة” لقسم من شارع الرشيد، وهو القسم الممتد من ساحة الرصافي إلى الميدان والباب المعظم، وكان الفصل بعنوان” بغداد في كيلومتر واحد” أي أنني رأيت بغداد، في هذا القسم من شارع الرشيد، حيث عشت في رحابه طيلة أعوام دراستي الجامعية.

وإنها لمصادفة طيبة، أن يقترن صدور كتاب “رحلة في ذاكرة شارع الرشيد” للإعلامي والمترجم العراقي البغدادي سعدون الجنابي، بالانتفاضة المجيدة التي تشهدها بغداد والمدن العراقية، وشارع الرشيد أحد ميادينها، وعلى أديمه سال دم الأبرار من الفتيان.

لقد كان سعدون الجنابي أميناً في مؤلفه هذا، على تاريخ شارع الرشيد، وهو ابن محلة المربعة، التي كانت وما زالت من أشهر محلات بغداد ومن أكثرها حضوراً ليس في ذاكرة البغداديين فحسب، بل في ذاكرة كل من عرف بغداد.

لقد كرس فصلاً مهماً في كتابه لما شهده شارع الرشيد من نشاطات سياسية، إذ كانت البداية في العام 1916 إبان زمن ولاية الوالي العثماني خليل باشا، لذا أطلق عليه أيامذاك اسم “خليل باشا جادة سي” ثم أطلق عليه اسم الشارع الجديد، وبعد ذلك وفي الحكم الوطني أصبح اسمه شارع الرشيد تيمناً بالخليفة العباسي هارون الرشيد، وقد شكل الفضاء الحيوي لذاكرة العراقيين، وبخاصة في ما يتعلق بالأحداث السياسية، ففي ثورة العشرين الوطنية، كان جامع الحيدرخانة، صوت الثورة في بغداد، وفيه عرف خطيب الثورة وشاعرها محمد مهدي البصير، وتواصلت فيه التجمعات المؤيدة للثورة والمنددة بالاحتلال البريطاني.

يقول المؤلف: شهد شارع الرشيد تظاهرات وانتفاضات شعبية، منها التنديد بوعد بلفور وانتفاضة كانون في العام 1948 وتقسيم فلسطين ومعاهدة بورتسموث والتنديد بالعدوان الثلاثي على مصر، ونشاطات تعاطف العراقيين مع أحداث فلسطين وبخاصة بعد مشاركة الجيش العراقي في القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي، واستمرت التظاهرات الجماهيرية فيه على امتداد العهدين الملكي والجمهوري في المناسبات والأحداث الوطنية والقومية، سواء كانت مؤيدة أم معارضة.

وحين يتناول الكاتب رمزية المكان، يشير إلى ما تميَّز به شارع الرشيد على صعيد تعدد المدارس المعمارية، حيث احتضن عدداً من الجوامع والمراقد ذات الطابع الديني وبعض الكنائس، وهي موزعة على امتداد الكيلومترات الأربعة، لطول الشارع.

وحين يتحدث أي كاتب عن الشواخص المكانية في شارع الرشيد لا بد أن يذكر المقاهي وبخاصة تلك التي كان يرتادها الكتاب والشعراء والصحافيون والفنانون وبعض المحال التي اقترن حضورها وتاريخها ليس بشارع الرشيد فحسب، بل كانت، وبعضها ما زالت تعد من علامات بغداد المميزة، ومن هذه المقاهي مقهى الزهاوي ومقهى حسن عجمي ومقهى الشابندر، وهذه المقاهي توالت أجيال من أدباء العراق وصحافييه وأكاديمييه وفنانيه، على ارتيادها، وما زالوا، وكذلك مقهى البرلمان والمقهى البرازيلي اللذان انتهى وجودهما، وتحولا إلى محال تجارية في العقد السابع من القرن الماضي، لكنهما ما زالا حاضرين في ذاكرة البغداديين.

إن سعدون الجنابي ابن بغداد ومحلة المربعة وشارع الرشيد، حيث عاش فيها أعوام طفولته وصباه وبعض أعوام شبابه، لا تتوقف ملاحظاته عند المكان مجرداً من بعده الاجتماعي، وهو يرى إن البغداديين هم فخر هذا الشارع، لأنهم تميزوا بانفتاحهم الاجتماعي والثقافي، وتعايشهم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو الطائفة، وكانت دور السينما تعرض أحدث الأفلام، كما أنهم عرفوا أحدث صيحات الموضة في الملابس الرجالية والنسائية والعطور المتميزة.

وظهر في بغداد أهم المقرئين، ممن توارثوا القراءة البغدادية وعرفوا بقوة الأداء وجمال الصوت واعتماد المقامات اللحنية في انتقالاتهم وهم يقرأون آيات الذكر الحكيم.

ويقول المؤلف: عرفت بعض إخواني من المسيحيين والصابئة يستمعون بشغف إلى هؤلاء المجيدين مثل الحافظ مهدي والحافظ خليل إسماعيل وعبدالستار الطيار والحاج محمود عبد الوهاب وغيرهم ممن وضعوا اللبنات الأولى في أصول التلاوة وقراءة المناقب الدينية.

ورغم أن المؤلفات الكثيرة والمقالات التي لا عد لها تناولت بغداد الحديثة وتوقفت طويلاً عند شارع الرشيد، إلا أن كتاب”رحلة في ذاكرة شارع الرشيد” كان إضافة إلى كل ما سبقه من تآليف وكتابات عن بغداد الحديثة وعن شارع الرشيد، لأن المؤلف ولد وعاش في رحابهما.

وقبل أن أنهي مقالتي أود أن أشير إلى أن شارع الرشيد تعرض منذ سنة 2003 إلى نكبة موجعة على أيدي شعوبيي نظام التخريب والدمار، بدافع الحقد على بغداد وتاريخها، وقد استمعنا إلى من يدعو من رموز هذا النظام وبوقاحة إلى تغيير اسم شارع الرشيد، فهو لم يهمل فقط، بل تعرض إلى حملة تخريب منظمة، لكن إرادة العراقيين وعروبتهم وصدق وطنيتهم التي ظهرت بكل عنفوانها في انتفاضة تشرين، ستعيد إلى شارع الرشيد ألقه كما أعادت ألق بغداد والعراق الجميل.

14