ما من شاعر مثل هتلر وما من نص مثل القنبلة الذرية

كل من يستطيع التواصل عبر الإنترنت صار يدّعي العلم بكورونا.
السبت 2020/04/11
ليس من وظائف الأدب مواجهة الكوارث (لوحة للفنان بسيم الريس)

اجتاح كورونا الفكر كما اجتاح جسد الإنسان. الكتاب العرب إسوة بغيرهم من كتاب العالم باتوا أسرى هذه الكلمة "كورونا"، فهم يدركون أنهم لن يتحرروا من سطوة ما تعنيه، ما لم يرددوها ويحيطون بأبعادها الكارثية وظلالها الكئيبة في الحاضر والماضي، فلقد أمست الكلمة، بوصفها دلالة على الوباء، مصدرا لتداعيات لا نهاية لها إن عبر لغة الأدب والعلم، أو عبر تاريح الجوائح.

في الجوائح الكبرى، ومفردها جائحة، ومعناها في اللغة العربية، الداهية أو التهلكة أو البلية، يقف الكاتب عاجزا، والعجز هنا، هو عدم القدرة على ردها أو المشاركة في ردها.

إن ما أعادني إلى هذه المفردة التي كادت تغيب عن التداول، شفهيا أو في الكتابة، هو ورودها في بيان منظمة الصحة العالمية في وصفها لكورونا، كما شاهدنا ما فعله هذا الوباء بالناس، إنها جائحة فعلا.

وقد كانت هذه الجائحة عادلة في توزيع ثمارها المسمومة على الدول والجغرافيات والمجتمعات فلم تفرق بين دولة غنية وأخرى فقيرة أو أقل غنى، وبين مجتمع متقدم وآخر متخلف أو أقل تقدما، كما لم تفرق بين مكونات المجتمع الواحد، إذ شملت في تقديم ثمارها المسمومة، الأغنياء والفقراء والرجال والنساء والشيوخ والشباب، وإنْ كانت الفروق شاسعة في طرق استقبالها والتعامل معها، وفي البحث عن وسائل محاصرتها وردها، وكلّ أظهر ما عنده وما يتناسب وقدراته، وما يعبر عن وعيه في التعامل معها ودفع شرورها ومخاطرها عنه.

وإذ سارع العلماء إلى مختبراتهم واستحضار خبراتهم، لم يجد آخرون غير خزين أوهامهم أو رفوف دكاكين العطارين، وكما قال أبوالطيب المتنبي “لكل امرئ من دهره ما تعودا”.

كما انقسم الناس في تحديد مصدر هذه الجائحة، وفيهم من رفض الاعتراف بها، وعدَّها مجرد إشاعة تصدر عن دوافع سياسية أو اقتصادية. وقد قرأنا في مجمل ما كتب عنها، من عدَّها مؤامرة أميركية تستهدف التقدم الاقتصادي الصيني أو من عدها خطة صينية ذكية للسيطرة على مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية في الصين، ولم يتراجع كثيرون من أصحاب هذا الرأي أو ذاك، عما ذهبوا إليه من نظرية المؤامرة، حتى بعد أن انتشر فايروس كورونا في الصين وفي أميركا، وألحق بهما أضرارا كبيرة.

أما على صعيد التنظير للأسباب التي أدت إلى ظهور فايروس كورونا، فقد سمعنا وسمع معنا كل من تابع هذا الموضوع في جميع أنحاء العالم، من الآراء ووجهات النظر مما ليس بالإمكان تحديدها ورصدها، والخلاف بشأن أسباب ظهور فايروس كورونا، لم يظهر فقط في أوساط الطارئين على علوم الجراثيم والفايروسات، حيث اكتشفنا أنهم أكثر مما يمكن توقعه، فكل من يستطيع التواصل عبر وسائل التواصل الحديثة صار يطلق القول على عواهنه ويدّعي من العلم ما لم يقل به أكبر المتخصصين في هذه العلوم، بل ظهر الاختلاف في ما يتعلق بأسباب ظهور فايروس كورونا، بين نخبة العلماء وكبار الأطباء، وكان التباين كبيرا بين أصحاب الاختصاص الواحد، ممن اعتدنا أن نرجع إليهم ونتبنى مقولاتهم، في هذا الموضوع أو ذاك، بينما تعددت الآراء وتباينت وجهات النظر، حتى ضعنا بينها ولم نستطع أن نقترب من الحقائق التي كنا وما زلنا بأمس الحاجة إليها، إذ أصبحت حاجة تتعلق بحياة الناس وتستدعي ما يحتاجون إليه من استقرار وأمل وطمأنينة.

هل تستطيع جميع أجناس الكتابة أن تدفع القلق عن الملايين من بني البشر ممن أرعبهم فايروس كورونا؟

وما جناه المواطن في كل مكان وفي جميع البلدان من هذا التعدد المربك هو القلق والعزلة والمزيد من المصاريف على المعقمات وما يظن أنها تدفع عنه البلاء من وسائل وأدوات طبية، وهذا ما حمّله أكثر من طاقته، واضطر إلى البقاء في مسكنه، وكثيرون يعيشون في مساكن لا تصلح للبقاء فيها طويلا.

ولكي يدفع بعض الناس عن أنفسهم القلق وما عاشوا من ضجر بسبب مكوثهم الطويل في مساكنهم، صاروا يكتبون أي شيء، ويوزعونه على أمثالهم ممن يعصف بهم الضجر والقلق، عبر وسائل الاتصال، فما إن يفتح المرء هاتفه أو جهاز الآيباد، حتى يجد مئات الرسائل والحكايات والتعليقات، فيها الكثير من القديم والمكرر، وفيها من الطريف الذي قد يخفف عنه بعض ما هو فيه.

غير أن الذي لفت نظري وتوقفت عنده وفكرت فيه هو ما سمعته أو قرأته في رسائل حاولت أن تفتح ثغرات في جدران العزلة التي فرضها فايروس كورونا، وما استمعت إليه أو قرأته مصدره أصدقاء كتاب، يتساءلون ماذا يمكن أن نكتب في مواجهة هذه الجائحة، ولو كتبنا، هل سيدفع ما نكتبه عن الناس قلقهم ومخاوفهم، بل قلقنا ومخاوفنا، وهذا التساؤل يقترن بكل الجوائح، من حروب وأوبئة ومفاجآت الطبيعة والمظالم الكبرى، حيث يظهر التناقض بين حال التقدم العلمي والاجتماعي وما تفرضه على الشعوب، الحروب والأوبئة ومفاجآت الطبيعة والمظالم الكبرى، من خراب ودمار.

إن العالم يعيش في فضاء حضاري، وقد شارك في صناعته وتأسيسه وتكريسه، آلاف المبدعين الكبار من مفكرين وفلاسفة وتشكيليين وشعراء وموسيقيين ومعماريين وروائيين ومسرحيين وسينمائيين، قدموا ويقدمون للحضارة الإنسانية أعظم الإنجازات التي لم تستطع أن تدفع حربين كونيتين مدمرتين، وقبلهما وبعدهما مئات الحروب الاستعمارية والتوسعية والممارسات الوحشية ضد الشعوب وأوطانها وخصوصياتها القومية والثقافية، ولم تفلح في أن تصون صناديق الاقتراع من أن يتسلل عبرها، جهلاء وعنصريون ولصوص محليون ودوليون، أغبياء وعدوانيون، ومن الأمثلة على هذا التناقض؛ إن مجتمعا حضاريا مثل المجتمع الإسباني حيث يتواصل الفعل الحضاري في محيط متغير من الرومان إلى القوط إلى العرب إلى القشتاليين، حتى المرحلة المعاصرة، لم يحل دون حرب أهلية بشعة وكذلك اليونان، بلاد الفلسفة والملاحم والنحت والشعر والمسرح، غير أنها عانت من عذابات الحرب الأهلية أيضا.

يقول الكاتب الأميركي هنري ميللر: لا يستطيع الكاتب فعل أي شيء، فمن هو ذاك الشاعر الذي رجّ العالم في القرن العشرين كما فعل هتلر، وهل هناك نص معاصر قلب العالم كما فعلت القنبلة الذرية؟

ويمكنني أن أواصل أسئلة هنري ميللر بالقول: ماذا يستطيع شاعر سلاحه الوحيد قصيدته، في مواجهة قاتل محترف يسمي نفسه مفتخراُ “أبوعزرائيل” ويمشي في شوارع بغداد، حاملا جميع أنواع الأسلحة، ويعد القتل واجبا دينيا يفتح له أبواب الجنة؟!

وهل تستطيع جميع أجناس الكتابة أن تدفع القلق عن الملايين من بني البشر ممن أرعبتهم أفاعيل فايروس كورونا في جميع بلدان العالم، وإذ نتذكر مقولة “لا يفل الحديد إلا الحديد”، فليس سوى العلم ورجال العلم في مختبراتهم من إلحاق الهزيمة بفايروس كورونا، كما فعلوا من قبل وكما فعل أسلافهم في إلحاق الهزيمة بفايروسات عديدة كانت أشدّ خطرا، وكورونا من أحفادها، على الحياة وأقوى شكيمة وأكثر أذى.

15