الثبات يصنع المقدسات ويضع الأسطورة بديلا للعقل

خلال تجربتي الحياتية، عرفت نوعا من الناس لا يتغير ولا يغير ما عرف من قبل، بمعنى أن ما عرفه في نشأته الأولى أو في مرحلة تكوينه المبكرة، تظل عنده هي الحقائق الثابتة، ليس على صعيد المفاهيم العامة والمعلومات والأفكار، بل حتى على صعيد أبسط يوميات الحياة، من علاقات بالآخر ومن تصرفات اجتماعية وغيرها، وعرفت من بين هذا النوع من الناس، من يرى كل ما اختلف عما عرف واعتاد عليه، خروجا على الحياة، وهي حياته هو، لا الحياة بمعانيها الحقيقية.
أما على صعيد المفاهيم والقناعات، فيرى في ما هو مختلف، كفرا وعيبا، بل خيانة أحيانا، أو ما يستدعي العجب، وسأذكر مثالين مررت بهما، الأول، كنت قد شاركت في مطلع الألفية الثالثة في ندوة فكرية في إطار نشاطات بيت الحكمة ببغداد، كان موضوعها يتعلق بجانب من جوانب الفكر الإسلامي، وكان ممن شارك فيها، أحد منظري الإسلام السياسي، وإذ تحدثت في تلك الندوة وأفصحت في ما تحدثت عن رؤيتي للإسلام وما تقترن به تلك الرؤية من إيمان، وأنا إنسان مؤمن، وقولي هذا لا يصدر عن مجاملة أو محاباة أو خوف، وإنما عن قناعة حقيقية، لأنني قومي عربي، نشأة وثقافة وموقفا، وهذا عامل أساسي في طبيعة علاقتي بالإسلام وبالإيمان، ولولا الإسلام لما قيض للعرب أن تكون لهم رسالة إنسانية وما كان لهم أن يحققوا ما حققوا في تاريخهم من دور وإنجاز حضاريين متميزين.
من المعروف، إذا فرض على الطفل من أبويه ألا يعترض على شيء مما يقوله الوالدان، يصبح هذا الشيء من المعلومة مقدسا، ثم حراما لا يجوز المساس به، ولو روِّض هذا الطفل على ثقافة وسلوك، الرأي والرأي الآخر
وبعد أن انتهت الندوة، زارني الشخص المذكور في مكتبي، وكنت أحسبها زيارة مجاملة، غير أنه فاجأني بسؤال لم أكن أتوقعه، وهو: من أين لك هذا الإيمان؟ وأدركت دوافعه إلى هذا السؤال، إذ كنت أعرف أنه يقول كيف تفصح عن رؤية إيمانية، بل كيف تدعي الإيمان وأنت لا تنتسب إلى حزب ديني، فأجبته بما كنت أتوقع إن جوابي سيزعجه، وقلت: إن إيماني الذي لفت نظرك وقادك إلى سؤالك هذا، الذي يجمع بين التعجب والاستنكار في آن واحد، لأنني قومي عربي، إذ طالما تساءلت، لولا الإسلام، إلى أي مآل كان مآل الأمة العربية التي أنتسب إليها وأتمنى لها الخير والعزة والتقدم، ومن الطبيعي أن المسلم الحقيقي يحب العرب، كما أن العربي لا بد أن يحب الإسلام ويحترمه، مهما كان دينه أو فكره، ويبدو أن إجابتي هذه أصابت الهدف، فدفعت بمحدثي إلى تغيير مجرى الحديث، ومن ثم يغادر مكتبي.
أما المثال الثاني، فيتمثل في حادثة عشتها في الشهور الأولى من إقامتي في الأردن، بعد أن غادرت بغداد في خريف سنة 2003 بعد الاحتلال الأميركي - الإيراني، إذ كان يزورني صديق نبيل وطيب وكريم، وكان يحرص على أن يخرجني من عزلتي ويرافقني إلى أماكن وإلى معارف وأصدقاء، ظنا منه أن تلك الجولات يمكن أن تسعدني، وبنية صادقة منه، والأعمال بالنيات، وصديقي هذا نشأ في محيط اجتماعي وأسري يساري وانتسب إلى تنظيم شيوعي في مرحلة مبكرة من حياته، واستمر على صعيد المواقف والقناعات، غير بعيد عما نشأ عليه.
سألني يوما، وكان الحديث يدور عن المقاومة العراقية الشجاعة ضد الاحتلال، عن دور الشيوعيين العراقيين في المقاومة فأجبته إن الحزب الشيوعي العراقي مشارك في السلطة التي أقامها المحتلون وهو ضد المقاومة، بل تستهدفه المقاومة في بعض الأحيان، فأجابني: لكن لا مقاومة من دون مشاركة الشيوعيين.
أدركت أن صديقي هذا غير قادر على أن يرى الواقع كما هو، وإنما كما يتمناه، بعيدا عن أي حوار مع الواقع في متغيراته أو مع الذات في القناعات، وهو لا يختلف في موقفه هذا عن منظر الإسلام السياسي الذي أشرت إليه من قبل، وهو الآخر لم يستطع أن يرى الواقع على حقيقته ولم يستطع أن يتجاوز قناعات نشأ عليها، وأمثال هؤلاء يرون في كل ما يختلف عن قناعاتهم، من قبيل الخطأ، أو كما يقول الدكتور ريكان إبراهيم مستشار الطب النفسي: ينجرح منا كثيرون، إذا وجهت إليهم نقدا في مجال سياسي أو اجتماعي أو ديني، كما أن هذا الكثير لا يمارس مثل هذا النقد على مسار يومياته أمام الآخرين، فيبدو ما يعتقد به أو يحمله أو يبوح به، كأنه حقيقة لا نقاش فيها لأنها من المسلمات.
لقد وجدت هذه الظاهرة السلوكية المتعبة لصاحبها وللناس من حوله، كما يشرحها علم النقد الاجتماعي، إن في الدماغ مئة وثمانين مركزا لقبول المدح وتقبله، وفي مقابلها أربعة مراكز فقط لقبول الذم والنقد، تتوزع على مناطق في الدماغ مثل الفص الجداري والحويصلة والمنطقة الصدغية والمنطقة القذالية.
من الطبيعي أن المسلم الحقيقي يحب العرب، كما أن العربي لا بد أن يحب الإسلام ويحترمه، مهما كان دينه أو فكره، ويبدو أن إجابتي هذه أصابت الهدف
ومن المعروف، إذا فرض على الطفل من أبويه ألا يعترض على شيء مما يقوله الوالدان، يصبح هذا الشيء من المعلومة مقدسا، ثم حراما لا يجوز المساس به، ولو روِّض هذا الطفل على ثقافة وسلوك، الرأي والرأي الآخر، لأصبح له المجال واسعا لتنمية روح الاعتراض عنده، وهذه الظاهرة تنمو في حال التعلم والاكتساب، وليس هناك أساس وراثي لها إلا القليل أو الأقل.
ويعلق الدكتور إبراهيم على هذا السلوك قائلا: قد ينفع التجريب والتدريب في التغيير، لكن كلما تقدم العمر بالإنسان، يصبح مثل هذا التدريب قليل الفائدة.
وتظهر صعوبة التغيير، بل صعوبة تقبل النقد والاختلاف في المجتمعات التي تجعل من “الكبير” مثالا ينبغي أن يسمع ويحتذى به ويؤتمر بما يقول، فلا يناقش ولا يحاور ولا يعترض على أقواله وتصرفاته، ومثل هذا السلوك بقدر ما يكرس الخطأ، فهو في الوقت ذاته يؤسس لسيطرة النقل على العقل ويحرم الإنسان من القدرة على إدراك الواقع في حيويته ومستجداته ومتغيراته.
ومهما كانت عليه حياة الإنسان، ومهما كان راضيا عنها متشبثا بما نشأ عليه واعتاده، فمتغيراتها تتطلب منه وعيا نقديا، وحوارا ذاتيا، يشارك من خلالهما في التغيير من جهة ويتواءم مع مستجداته من جهة ثانية.
إن أخطر أنواع الثوابت، هو الذي يمنح صفة المقدس، إذ يتحول الثابت إلى صنم يعبد ويكون الأسطوري بديلا للعقل، وليس من وسيلة للاندماج بجوهر الحياة والاقتراب من معانيها العظيمة إلا من خلال الوعي النقدي حيث يكون الحوار الذاتي دليلا ومنهجا في آن واحد.