حسابات الربح والخسارة تتغلب على المحتوى في الشاشات المصرية

غادر عدد من الإعلاميين البارزين برامجهم التي أطلوا على الجمهور المصري من خلالها طيلة سنوات دون تفسير الأسباب، رغم جماهيرية الراحلين ونجاحهم، فيما يعتبر القائمون على القنوات الفضائية أنها كيان اقتصادي يطبق سياسة الربح والخسارة ويبني احتياجاته وفقا لهذه القاعدة.
القاهرة - تسيطر حالة من الضبابية على إدارة المشهد الإعلامي في مصر، إذ يرحل مذيعون بشكل مفاجئ ويحل مكانهم آخرون، وتتوقف برامج وتبقى غيرها، دون معايير محددة ولا أسباب مقنعة، بينما يجري الحديث وراء الستار أن الربح والخسارة المعيار الأساسي في هذه التغييرات.
وتم وقف برنامج “باب الخلق” للإعلامي محمود سعد على فضائية قناة النهار من دون إبداء أسباب، ورحلت الإعلاميتان مفيدة شيحة وسهير جودة عن برنامج “الستات ما بيعرفوش يكدبوا” الذي شاركتا فيه منذ سنوات على فضائية “سي.بي.سي”، وحلت مكانهما هبة الأباصيري وإيمان عزالدين، وهما من الوجوه القديمة. في حين لم يشعر المشاهد بتغيير إيجابي يمكن أن يدفعه للاقتناع بأن ما جرى محاولة لإرضائه وتحقيق طموحاته.
وهذه التغييرات هي جزء صغير مما يجري على فترات متلاحقة في المشهد الإعلامي المصري. دون تفسير لماذا يرحل البعض ويأتي غيرهم، رغم جماهيرية الراحلين ونجاحهم إلى حد بعيد في تقديم وجبة إعلامية جيدة، لكنّ هناك أسبابا غير مفهومة للمشاهدين حول دوافع التدوير التي تحدث من وقت لآخر.
وما يلفت الانتباه أن الذين رحلوا قبل أيام قليلة ليسوا من المذيعين الذين يتطرقون إلى السياسة من قريب أو بعيد، أيّ أنهم لم يدخلوا في محاذير أو تجاوزوا الخط الأحمر المرسوم لهم، بل إن برامجهم اجتماعية وثقافية وتوعوية بشكل أكبر، وتعتمد على طرح قضايا لها أبعاد مجتمعية، ما أثار تساؤلات مبهمة حول أسباب الغياب.
وقال المذيع محمد الباز مستشار الشبكة الإعلامية لقناة النهار على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك، إن رحيل محمود سعد عن المحطة جاء وفق سياسة خفض النفقات، وأنه من طلب توقف برنامجه، معتبرا أن المحطة في النهاية كيان اقتصادي يطبق سياسة الربح والخسارة ويبني احتياجاته وفقا لهذه القاعدة.
وأحدث توقف برنامج محمود سعد “باب الخلق” جدلا كبيرا على منصات التواصل الاجتماعي، لأنه كان ثريا وفريدا في انتقاء الموضوعات التي يفضها الجمهور، وله نسبة متابعة عالية، وتعهد المذيع بعدم الاختفاء عن الساحة على أن يعيد تقديم البرنامج عبر منصة يوتيوب، وهو المنبر الذي صار يلجأ إليه الكثير من الإعلاميين الذين جرى تغييبهم عن الظهور بالشاشات.
ويرى متابعون أن الأزمة تكمن في تركيز الإعلام على حسابات الربح والخسارة لا الوصول إلى الجماهير وتقديم محتوى مهني، ما تسبب في تراجع نسبة المشاهدة على الرغم من تعدد المنابر وتنوعها بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحواري، وبناء على الاهتمام بالشق المالي تدنت المصداقية وبدت بعض المنابر تخاطب نفسها.

وبغض النظر عن أسباب رحيل مذيعين وإسكات برامج وبقاء أخرى، فالمعضلة لدى القائمين على إدارة المشهد مرتبطة بأن الوجوه وحدها هي القادرة على إقناع الجمهور بتطوير الرسالة الإعلامية دون إدراك لأهمية المحتوى والمضمون في تقديم رسائل تقنع المشاهدين وتدفعهم لعدم اللجوء إلى منصات أخرى.
وقال حسن علي أستاذ الإعلام بجامعة قناة السويس، ورئيس جمعية حماية المشاهدين في مصر، إنه لا يمكن بناء إعلام قوي مؤثر وفعال يرضي الجمهور ويحقق رغباته، بالاعتماد على وجوه إعلامية حتى لو كانت لامعة ولديها شهرة واسعة، لأن العبرة في المضمون نفسه، والمشكلة أن أغلب البرامج تقدم نفس المحتوى تقريبا أو تقوم بتدويره ليظهر للناس بأنه جديد وحصري. وأضاف لـ”العرب” أن العبرة ليست في الاعتماد على مذيعين جدد، سواء أكانوا شبابا أم تم استدعاؤهم من الماضي، بل في أن يحققوا للجمهور ما يريده ولا يلتزمون حرفيا بالسياسة الإعلامية القائمة التي تحظر الاقتراب من ملفات وقضايا بعينها، فالاستمرار على أسلوب الموالاة المطلقة لن يصنع إعلاما قويا، وتظل القنوات تدور في فلك خدمة أهداف محددة ليس من بينها بالضرورة جودة المضمون.
ومرت عمليات التجديد والتطوير في المشهد الإعلامي بمراحل عديدة، بدأت بإزاحة ما يسمى بـ”مراكز القوى” من المشهد، منهم الذي جلس في منزله بلا عمل، وبينهم من ذهب إلى منابر خارجية، وجرى استبدالهم بمذيعين شباب، لكن التجربة لم تحقق هدفها، حيث لجأ الجدد إلى الدفاع عن الحكومة للحفاظ على مكانهم وتجنب إقصائهم.
وغاب التنوع والاختلاف في المضمون وحل مكانهما الصوت الواحد، وأمام شعور الحكومة بأن قوة الإعلام تتهاوى لغياب المذيعين المخضرمين قررت تسهيل عودة بعض القدامى مرة أخرى مع وجود مذيعين شباب، بحيث تكون هذه بداية صناعة جيل ثاني من الإعلاميين، وتم تقديم مجموعة برامج من خلال وجود مذيع شهير مخضرم وإلى جانبه إعلامي شاب (أو إعلامية) يكتسب منه الخبرة.
ولم تنجح الفكرة، فالمذيع الشهير كان يسعى للاستحواذ على وقت البرنامج لصالحه ومع الوقت تمت إزاحة المذيع الشاب، وعاد الشكل إلى ما كان عليه سابقا، واستحوذت أغلب الوجوه القديمة على القنوات إلا من النشرات الإخبارية التي تم فيها الاعتماد على الوجوه الجديدة، وظل المحتوى كما هو بلا تغيير حقيقي، وصارت النسبة الأكبر من البرامج أشبه بنسخة مكررة من بعضها.
وأكد حسن علي أن سياسة تدوير الوجوه يصعب أن تقنع الجمهور بأن الإعلام يتغير أو يتطور، فالمشاهد ذكي ويدرك أن هذه الأفعال محاولة للإيحاء بأن القادم أفضل، مع أن السياسة الإعلامية ثابتة ولا تتغير، في وقت لم يعد أسلوب الصوت الواحد مجديا.
ويعتقد كثيرون أنه مع إطلاق الحكومة المصرية الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي كان من بين بنودها حرية الرأي والتعبير والاختلاف، أن تتغير سياسة الإعلام، وتكف عن الاعتماد على الوجوه فقط وتسمح بقدر من العقلانية والتوازن والنقد ورفع سقف الحريات، لكن ظلت الأمور كما هي خالية من المحاولات الجادة لانتشال الإعلام من أزماته حتى أصبحت مصداقيته على المحك.
لم تدرك الجهات المعنية بإدارة المشهد الإعلامي أن المعضلة ليست في هوية مقدم الرسالة للجمهور، بل في المضمون نفسه، فالرئيس عبدالفتاح السيسي نفسه دائما ما ينتقد مؤسسات حكومية ويتهم بعضها بالتقصير في حل المشكلات والتسبب في تراكمها وترحيلها، مع أن ذلك غير مسموح للإعلام ولو كان لأهداف وطنية نبيلة.
لا ينكر البعض من الخبراء أن هناك تحديات كثيرة تواجه الدولة محليا وإقليميا، تتطلب أن يكون الإعلام حذرا بعض الشيء في تناول بعض القضايا ذات الحساسية السياسية، لكن ذلك لا يمكن أن يكون مبررا لاقتصار التطوير على استدعاء وجوه من الماضي، فالاقتراب من مشاكل الناس وقضاياهم الملحة هو الطريق للحصول على إعلام هادف.
مهما كانت سياسة التدوير مطلوبة، ستبقى بلا جدوى طالما بيئة العمل نفسها لا تسمح بالاستقلال في اختيار المحتوى، أو توجد مساحة من الاختلاف، لأن الشارع سيتعامل مع كل وجه، قديما أو جديدا، باعتباره تابعا للحكومة ويعمل لحسابها وليس لمصلحة الجمهور، ومع الوقت يفقد الإعلام ما تبقى له من شعبية ورصيد عند الناس وتصبح منصات التواصل والقنوات الخارجية هي المنابر البديلة.