حرب الإلكترونيات مجرد إشاعة تسويقية

الصراع بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني هو في الغالب تعبير عن التضارب بين مصالح المشتغلين في المجالين.
السبت 2019/08/17
الكتاب يحتاج إلى محامل جديدة (لوحة للفنان علي رضا درويش)

افتراض صراع بين الكتاب الإلكتروني والكتاب الورقي ليس كما يبدو في ما نقرؤه هنا وهناك من بحوث أو مقالات أو إحصائيات وغيرها، وإنما هو صراع مكذوب، حيث لا يتجاوز كونه تضارب مصالح لصناع الكتاب الورقي في مقابل القائمين على صناعة الكتاب الإلكتروني.

قبل خمس سنوات، كانت شركة برايسوترهاوس كوبرز، وهي شبكة عالمية تضم مجموعة من المؤسسات المختصة في تقديم الخبرة، قد ضربت، في تقريرها السنوي، موعدا يمتد إلى أربع سنوات لكي يتجاوز الكتاب الرقمي حجم حضور الكتاب الورقي ولكي يبدأ أفول هذا الأخير، مستندة في ذلك إلى الارتفاع الكبير لعدد الكتب الإلكترونية ومبيعات أجهزة قراءته.

غير أنه مرت سنة على الموعد الذي توقعته الشركة، ولم يمت الكتاب الورقي. إنه هنا بيننا. قد يتعثر وجوده في أمكنة وفضاءات ثقافية ما، وقد ينتعش في أمكنة أخرى، توفر له شروط الحياة والتألق.

الصراع بين الكتابين

غالبا ما تكون التوقعات التي يلوح بها البعض جزءا من صناعة “الماركتينغ”، خصوصا مع احتدام حرب التنافسية بين الشركات الكبرى، في سياق بحثها عن زبائن جدد وعن أسواق جديدة. وهو ما تعكسه على سبيل المثال، شراسة المواجهة بين شركات كبرى، كأمازون وغوغل وأبل وغيرها من الشركات، التي يجمعها تقاسمها للكثير من الأسواق العالمية، وتحقيقها لأرباح خيالية.

وهي الأرباح التي ستنتهي بأن تكون موضع أعين العديد من الدول، والأوروبية منها بشكل أساس، خصوصا مع انبعاث رائحة التهرب الضريبي وفضيحة توظيف المعطيات الخاصة للزبائن. وهو ما كان موضوع آخر تقرير صادر قبل شهر عن لجنة محاربة الاحتكار التابعة للاتحاد الأوروبي، حيث أوصت اللجنة بفرض اقتطاع ضريبي على الشركات الكبرى، وعلى رأسها أمازون، يصل إلى عشرة في المئة من أرباحها المحققة على المستوى العالمي.

وبذلك، فإن الصراع بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني، كما يتم الترويج له، هو في غالب الأحيان،  تعبير عن التضارب بين مصالح المشتغلين في المجالين. إذ أن ربح قراء جدد، ولو كانوا “إلكترونيين”، هو في نهاية المطاف ربح للقراءة، التي تبقى غير محكومة بنوع الوسيط، ولا بطقوسها.

  وبالتالي، فإن ما تنجزه صناعة الكتاب الإلكتروني على مستوى اجتياح أسواق جديدة، يُحسب على مشهد القراءة. خصوصا أن هذه الصناعة الجديدة تمثل فرصة ذهبية، بشكل أساس، أمام الكتاب الصادر في البلدان التي تفتقد لبنيات توزيع مهنية كبرى، تستطيع أن تصل بالإنتاج الوطني إلى خارج الحدود، بحثا عن أسواق جديدة على مستوى القراءة.

لعل غياب الذكاء الاستراتيجي عربيا هو ما يحكم أيضا قطاعا هاما على مستوى رقمنة الكتاب، وهو المكتبات العربية. إذ يستمر التسابق نحو إطلاق العديد من المشاريع داخل البلد الواحد، دون أي تنسيق

إنها الفرصة التي يضيعها إلى حد الآن قطاع النشر العربي، تاركا المجال مفتوحا للمئات من المواقع الإلكترونية المواظبة على نشر الآلاف من العناوين المقرصنة، التي تختلط فيها كتب التراث بكتب الدعوة إلى الإرهاب. وذلك ضدا على كل التشريعات التي تحفظ حقوق المؤلف وحقوق الناشر، وعلى الحاجة إلى مكونات قطاع نشر حقيقي يساهم في نشر ودمقرطة المعرفة دون تفقير منتجيها.

لعل غياب الذكاء الاستراتيجي عربيا هو ما يحكم أيضا قطاعا هاما على مستوى رقمنة الكتاب، وهو المكتبات العربية. إذ يستمر التسابق نحو إطلاق العديد من المشاريع داخل البلد الواحد، دون أي تنسيق. حيث نجد أنفسنا أمام نفس المخطوطات ونفس الكتب التي تُرقمَن من طرف أكثر من مكتبة في نفس البلد، مع ما يعني ذلك من تشتت في العمل وفي الجهود، وضياع للميزانيات الضخمة التي تتطلبها مشاريع الرقمنة، وأيضا عمليات ومقتضيات حفظ الرصيد المرقمن.

الرقمنة العربية

ما يرقمن على المستوى العربي يظل محدودا، إذ لم يتجاوز عدد الوثائق المرقمنة، على سبيل المثال، من طرف دار الكتب الوطنية التونسية، الأربعة عشر ألف وثيقة، خلال أكثر من عشر سنوات. وهو ما يشغل أقل من واحد في المئة مما يتيحه موقع غاليكا الذي أطلقته المكتبة الوطنية الفرنسية.

 أما وصفة غاليكا في ذلك فتقوم على شبكة شراكاتها الكبيرة، التي تشمل أكثر من أربعين مؤسسة، ما بين مكتبات عمومية وجامعية ومعاهد البحث ومكتبات الأكاديميات الفرنسية وأيضا مكتبات وطنية أجنبية. وهي شراكات تقوم على تبادل الوثائق المرقمنة بشكل يُمَكن من إغناء موقع غاليكا والمواقع الشريكة، وذلك بشكل آني ومستمر، مع العلم أن نفس هذا الرصيد المرقمن يُصَب في موقع أوربيانا، الذي يشمل الرصيد الأوروبي المرقمن، والذي يناهز خمسين مليون وثيقة، ما يمنحه من عدد ضخم من الواثق التي تخص العالم العربي.

وستكون المكتبة الوطنية الفرنسية سباقة، في سياق حفظها وحمايتها للإنتاج الإلكتروني الصادر بالبلد، إلى التنصيص، على مستوى القانون المنظِّم للإيداع القانوني، على إيداع الوثائق المتاحة عبر الإنترنت، والمتجلية في الكتب الرقمية والمواقع الرسمية والشخصية، والمجلات الإلكترونية، والبلوغات، والمواقع التجارية، ومنصات الفيديوهات، وغيرها. وإن كان ذلك يبدو مستحيلا اعتبارا لفيضان عدد الوثائق الإلكترونية المنتجة كل دقيقة، على الأقل كما أقر بذلك تقرير المفتشية العامة للمالية الخاص بالمكتبة الوطنية الفرنسية.

وفي زحمة هذه المؤشرات المفارقة، تشكل التجربة المغربية على مستوى إنتاج الكتاب الإلكتروني علامة مضيئة، على الأقل كما تثبت ذلك نتائج آخر تقرير عن وضيعة النشر والكتاب بالمغرب، صادر عن مؤسسة الملك عبدالعزيز آل سعود بالدار البيضاء. إذ يكشف التقرير عن التطور المتواصل لحصة الكتاب الإلكتروني، حيث انتقلت نسبته من  ثلاثة في المئة إلى عشرين في المئة خلال الأربع سنوات الأخيرة.

خلال الشهر السابق، كانت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية  قد احتضنت فعالية إطلاق الخارطة الرقمية للمكتبات ومراكز المعلومات، باعتبارها، كما تصورها الجامعة، “أول مشروع عربي غير ربحي يعزز الوعي المعلوماتي الجغرافي بمؤسسات المكتبات ومراكز المعلومات العربية، ويهدف إلى توفير مؤشر عربي للمكتبات ومراكز المعلومات العربية ويرصد واقعها ويقدم المعلومات المساندة لعمليات التخطيط الاستراتيجي” (كذا).

والحقيقة أنني أجد أن دخول مثل هذه المؤسسات “الكبرى” على خط المهنيين في المجال هو الطريق الأقصر نحو موت أي مشروع.

للتذكير فقط، كانت نفس الجامعة قد احتضنت، قبل سنوات، مشروعا مشتركا كان يبدو طموحا، وهو يخص رقمنةَ ذاكرة العالم العربي، وكان من المفروض أن يرى المشروع النور سنة 2011. حل ما يُسمى بالربيع العربي، وسقطت أنظمة وحلت أخرى، وفنيت شعوب. ويبدو أن الجامعة نسيت الأمر. وحده موقع ميت خاص بالتعريف بالمشروع ما زال على الويب، يذكرنا بالأمر.

14