جوزيفين بيكر تدخل البانتيون من الباب الكبير وأمثالها يعانون الرجم والتكفير

مقبرة العظماء أو كما تسمى مقبرة “البانتيون” الفرنسية تضم رفات عظماء الحضارة الفرنسية من مثقفين وأدباء وعلماء وغيرهم من المؤثرين، إنها ليست مجرد مقبرة بل ذاكرة أمة وفخرها، فيما لو قارنا اعتزاز الفرنسيين بحضارتهم وروادها ومعاملة العرب لعظمائهم نرى فرقا شاسعا، بين من يقدس قادة التنوير والحضارة ومن ينكّل بهم أحياء وأمواتا.
من يمنح القيمة المضافة للآخر: السمعة البروتوكولية لمقبرة “البانتيون” الفرنسية أم العظماء الذين تستريح رفاتهم فيها؟
هل يمكن أن تُتهم المقابر أيضا بالعنصرية والفرز الطبقي، والانحياز لفئة دون أخرى؟ ومن يقف عند بابها كي يُدخل من يشاء ويحرم من يشاء، بحسب مزاجه وقائمة الشروط التي يجب أن تتوفر لدى كل مقيم جديد أم أن هذا السؤال لا يعني الذهنية الغربية؟
كيف يرقد عظماؤهم وكيف يرقد عظماؤنا ـ نحن العرب ـ من رموز وطنية وثقافية، ولماذا تعاد محاكمة الكثير من الأسماء اللامعة في التاريخ العربي، وتقع إدانتها بدل تكريمها؟
جالت هذه التساؤلات بخاطري وأنا أتابع قرار الرئاسة الفرنسية نقل رفات الفنانة الأميركية الفرنسية جوزيفين بيكر (1906-1975)، الوجه البارز في المقاومة الفرنسية ومكافحة العنصرية، إلى البانتيون، هذا الخريف، لتصبح أول امرأة سوداء ترقد في “مقبرة العظماء” وهي أيضا، واحدة من ست نساء كان آخرهن امرأة الفكر والتصوف سيمون فايل، عام 2018.
النجمة السوداء
جوزيفين بيكر فنانة استعراضية سوداء إذن، ستشارك قلة من بنات جنسها الإقامة بالبانتيون في الحي اللاتيني بباريس، والتي تعني باليونانية القديمة “مجمع الآلهة”.
وستجاور هذه المرأة التي ساهمت في المقاومة ضد النازية، رجالا مثل ميرابو، فولتير، هيغو، روسو، زولا، سانت إيكزيبري، أندريه مالرو، وغيرهم من عظماء فرنسا الذين قدموا للبشرية، وعمل قسم كبير منهم على حراسة قيم الجمهورية ومبادئ الثورة الفرنسية من موقعه دون مفاضلة أو تمييز.
جاء هذا القرار التكريمي إثر عريضة ضمت الآلاف من التوقيعات، وقدمتها شخصيات مشهود لها بالفاعلية والحضور اللافت في عوالم الأدب والفن والنشاط الحقوقي، بالإضافة إلى أفراد عائلة الفنانة الذين وافقوا على نقل رفاتها من مدينة موناكو حيث ترقد منذ عام 1975.
وجاء في نصّ العريضة أن الفنانة كانت أوّل نجمة عالمية سوداء ملهمة للحركة التكعيبية ومشاركة في المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية في صفوف الجيش الفرنسي، عدا أنها مناضلة مع مارتن لوثر كينغ من أجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وأيضا في فرنسا إلى جانب ما بات يُعرف لاحقا بالاتحاد الدولي لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية.. وبسبب ذلك كله، تستحقّ جوزيفين بيكر أن تكون في البانتيون.
يطرح هذا التكريم الذي يسعف الأموات من النسيان ويخلدهم في أعلى مراتب التكريم، أكثر من سؤال حول الالتفات إلى وضع الفنانين والمبدعين العرب بعد وفاتهم.
المتطرفون الحاقدون
هل نبالغ القول إذا اعتبرنا أن غالبية من أهل الفكر والفن والإبداع في العالم العربي، قد وقع قتلها قبل أن تدركها الوفاة، وأن بلدانا عربية كثيرة لم تكتف بإهمال وتجاهل عظمائها فقط بل سعت إلى محوهم من الذاكرة الثقافية والوطنية لمجرد أنهم لا يروقون للمسؤولين عن جهات الإشراف، ولا يتوافقون مع أمزجتهم وآفاقهم الضيقة والحاقدة.
طبعا لم تخصص السلطات العربية مقابر ومدافن في حجم البانتيون لتكريم مبدعيها وتخليد ذكراهم بعد وفاتهم بل غض بعضها الطرف عن الإهانات التي تعرض إليها رجالات ـ ونساء ـ فن وإبداع لم ينعموا بالراحة الأبدية وهم يرقدون في قبورهم.
الأمثلة في هذا المجال كثيرة ومتفرقة على امتداد العالمين العربي والإسلامي، خصوصا بعد حالات الهياج والانفلات التي أصابت دول ما يعرف ببلدان الربيع في العشرية الأخيرة، على أيادي الجماعات السلفية والإخوانية المتطرفة.
مثلا، تعرض إلى الهدم والتدنيس قبر المصلح والمفكر التونسي الطاهر الحداد (1899 ـ 1935) الذي يرجع له الفضل في إرساء فكر تحرير المرأة. وكان اسم هذا العلم الكبير قد تعرض إلى الإهانة والإساءة في حياته ومماته، أضف إلى ذلك مجموعة من قبور ومقامات تخص الرموز الوطنية والفكرية والروحية والفنية مثل العالمة الصوفية السيدة المنوبية، والمغنية اليهودية حبيبة مسيكة.
وكذلك عبثت أيادي المدنسين من المتطرفين بقبور ومقامات في بلدان أخرى مثل ليبيا والجزائر وسوريا والعراق، أما إيران فلم تسلم فيها قبور الشعراء والكتاب والفنانين المعارضين لنظامها السياسي من الهدم والتشويه، فضلا عن اضطهاد البهائيين وتخريب مقابرهم في اليمن بإيعاز من طهران.
الذين استقرت رفاتهم في مقبرة البانتيون بالعاصمة الفرنسية باريس، صاروا أشبه بالقديسين، فلا تطالهم التشويهات ولا يُسمح بالتعدي على كرامتهم أو التعرض لحياتهم الخاصة بالتجريح، ذلك أنهم جزء من فخر الأمة وفق الدستور الفرنسي، أما في الكثير من بلدان العالم الثالث، فلا يكتفي المتطرفون الحاقدون بتركهم يستريحون في قبورهم بل عمدوا إلى التعدي على كرامتهم في الحياة والممات.
وصلت “فانتازيا التطرف” إلى حدّ قطع رؤوس تماثيلهم القليلة، تهشيمها والتنكيل بها وهي على هيئة معادن وحجارة كما فعلت داعش بتمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان السورية.
الأدهى والأمرّ أن الورثة من أسر كبار المبدعين والمفكرين والإصلاحيين في العالم العربي قد ساندوا دعوات التكفير والتخوين التي أطلقها المتطرفون والسلفيون ضد أسلافهم، ومنعوا حتى السلطات المحلية من إقامة التماثيل لهم بدعوى أنها محرمة، كما حدث مع أقارب أبي القاسم الشابي والطاهر الحداد في تونس، على سبيل المثال لا الحصر.
رامبو خارج المقبرة
في المقابل، فإن فرنسا في شخص رئيسها، ترفض إدخال رفات أرتور رامبو إلى مقبرة العظماء احتراما لرغبة عائلة الشاعر. وكتب ماكرون لمحامي الأسرة في رسالة مؤرخة الأربعاء “لن يتم نقل رفات آرثور رامبو” من مقبرة عائلة شارلفيل-ميزيير، ذلك أن دخول البانتيون، في نظره، يهدف إلى “تكريم شخصيات ساهمت التزاماتها في التعبير عن قيم الجمهورية”، وأكد أنه لا يرغب في “السير بعكس إرادة عائلة الراحل” نظرا إلى “الدور الخاص للبانتيون في بناء ذاكرة جمهورية مشتركة”.
السلطات العربية لم تخصص مقابر ومدافن في حجم البانتيون لتكريم مبدعيها وتخليد ذكراهم بعد وفاتهم
وأوضح أن رامبو “سيبقى مدفونا إلى جانب عائلته في مدافن العائلة في مقبرة شارلفيل-ميزيير، مسقط رأسه وآخر مكان أقام فيه”، واصفا إياه بأنه “شخصية رئيسية في الأدب الفرنسي، وشاعر مهم جدا وصاحب روح متمردة”، و”اسمه جزء مستمر في تاريخ فرنسا”.
وبالعودة إلى سيرة المحتفى بها جوزيفين بيكر، في مقبرة العظماء، والنظر إلى “مدونة سلوكها” قليلا، يلحظ المواطن العربي التقليدي أن سيرة هذه الفنانة “ليست مشرفة جدا” من وجهة نظر المجتمعات التي نعيش فيها: فتاة من عائلة معدمة، زُوّجت مرتين في الخامسة عشرة ثم فرّت من عائلتها ملتحقة بفرقة للمسرحيات الشعبية.
هل كانت هذه السيرة ستقنع السلطات العربية وتعتبرها واحدة من أهم الشخصيات الوطنية والتاريخية الجديرة بأن تحتوي مقبرة العظماء رفاتها لو كانت جوزيفين فتاة عربية؟ سؤال في ذمة التاريخ الحديث والمعاصر.