المسرح السعودي يعيد تأسيس نفسه مستلهما زخم المؤسسين الأوائل

تعتبر الثقافة محورا مهما وأساسيا من منظور رؤية السعودية 2030، إذ لا يتوقف الدعم الرسمي للثقافة في كافة مجالاتها من الكتب إلى النشر والتأليف وفنون الموسيقى، وخاصة السينما والمسرح والفنون الأدائية وغيرها. ولعلّ المسرح في جوهر النهضة الثقافية التي تشهدها البلاد، مستفيدا من إرث ثقافي هام للمملكة، ومبشرا بمستقبل مختلف.
الهيئات المتخصصة في الشؤون الثقافية السعودية استطاعت في السنوات القليلة الماضية أن تصوّب تلك النظرة السطحية والنمطية الرائجة لدى بعضهم خارج المملكة، حول المسرح السعودي كونه ما زال يحبو ويتلمس طريقه وسط عوائق اجتماعية وإدارية كثيرة.
ربما غاب عن هؤلاء أن المسرح في السعودية بدأت إرهاصاته الأولى، بحسب الوثائق والمنشورات، مع أول مسرحية كتبها الشاعر عبدلله الحسين بعنوان “الظالم لنفسه” عام 1932، أما البداية الفعلية لنشاطاته فتتمثل في العروض المسرحية التي تقام على المسارح عام 1950، مثل مسرحية صلاح الدين وعبدالرحمن الداخل. وبين عامي 1960 – 1970 تحول المسرح تدريجيا نحو تقديم عروض ذات طابع اجتماعي توعوي وترفيهي تخص جميع أفراد الأسرة.
نهضة فنية وثقافية
المسرح السعودي يبدو واعدا ويبشر بنهضة كبيرة، وذلك لاقترانه بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبما يناله من دعم
الآن، وضمن رؤية 2030 التي ربطت التنمية البشرية بباقي نظيراتها الاقتصادية والثقافية، بدأ المسرح السعودي يعيد تأسيس نفسه مستلهما زخم المؤسسين الأوائل في الكتابة المسرحية على وجه الخصوص، كأحمد عبدالغفور وعبدالله عبدالجبار ومحمد مليباري وعبدالله بوقس، وعصام خوقير وغيرهم، ثم مستشرفا الحاضر والمستقبل عبر كفاءات وأسماء فاعلة مثل ناصر القصبي، وسامي الجمعان، وراشد الشمراني، وخالد الباز، وفاطمة البنوي، وسميرة الخميس، وذلك ضمن هيئة المسرح والفنون الأدائية للنهوض بالمجال المسرحي ودعمه وتشجيع الاستثمار فيه.
المسرح في السعودية إذن، وكما بقية الفنون الدرامية والبصرية، ليس طارئا ولا مستحدثا ولا مستوردا بل هو أكثر عراقة وأصالة مما هو عليه في بلاد عربية أخرى شهدت طفرات في هذا المجال.
وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن أهم العوامل والأسباب التي تقف خلف تطور الفنون الدرامية على وجه التحديد، تتمثل في الإرادة السياسية وما ينجر عنها ويتبعها من سياسات ثقافية من شأنها أن تحدث فورة تخلف أجيالا تتناقل شعلة الإبداع وتشكل فيما يشبه التيار أو المدرسة المميزة.
يأتي هذا وبدرجات متشابهة أو متفاوتة كالنهضة المسرحية في تونس الثمانينات والتسعينات، والتي تعود بالفضل إلى رجالات الثقافة من الذين رافقوا مشروع بورقيبة التحديثي عبر الإرساليات إلى أوروبا والاستفادة من الخبرات والطاقات في هذا المجال.
وهذا بالفعل، ما قامت به المملكة العربية السعودية، ومنذ بداية الثمانينات، حين قررت الرئاسة العامة لرعاية الشباب (وزارة الرياضة حاليًا)، ابتعاث عدد من الفنانين في مجالات عدة منها: التمثيل والإخراج والديكور والتأليف، لدول عربية وخليجية وأجنبية.
وكذلك قامت شركة أرامكو السعودية في العام 2012، بالتعاقد مع مسرح الشباب الوطني البريطاني وجذب أسماء متخصصة في مجال المسرح، وذلك لتدريب عدد كبير من المهتمين.
الآن، بدأت هذه الجهود تؤتي أكلها، إذ أكد سلطان البازعي، الرئيس التنفيذي لهيئة المسرح والفنون الأدائية، التابعة لوزارة الثقافة السعودية، أن المملكة ستشهد حراكاً مسرحياً خلال الفترة القليلة المقبلة، بعد سنوات طويلة من الغياب، وذلك في ضوء رؤية المملكة 2030.
وأكد البازعي، أن الهيئة لديها العديد من المهام الإستراتيجية التي تعمل عليها حالياً، لعل أبرزها إعادة علاقة الجمهور بالمسرح، وجعله حاضراً في الحياة الثقافية للمواطنين السعوديين والمقيمين في المملكة.
المسرح والجمهور
لئن استقدمت الجهات القائمة على المسرح في السعودية عروضا زائرة عربية وأجنبية، فإن الجمهور يحتاج إلى أعمال محلية تعبر عن همومه وتطلعاته، وهو أمر يتطلب تنمية قدرات وصقل مهارات، وتطوير ورش كتابة النصوص، وتهيئة مواقع العروض.
وهكذا استطاع المسرح السعودي ـ وفي وقت قياسي ـ أن يتدارك سنوات التشدد والإهمال التي تسببت في ضمور الحركة المسرحية، وأدت إلى التأخر في اكتشاف المواهب النسائية على وجه الخصوص. وفي هذا الصدد، فإنه من الجدير بالذكر أن عام 2018 شهد مشاركة مسرحيّة للمرأة، وصفت بالأولى بعد 50 عامًا على غياب المرأة عن العروض الجماهيرية في السعودية. وذلك ضمن مسرحية أعلنت عنها الهيئة العامة للترفيه بالسعودية، على مسرح دار العلوم بمدينة الرياض بعنوان “حياة الإمبراطور”.
لدى السعودية من إرث ثقافي وأدبي ما يجعلها تنتج فنا مسرحيا يشبهها ويغرف من تراثها المتنوع والثري
اليوم، تسجل النساء السعوديات إنجازات متزايدة في المسرح، من خلال الفوز بجوائز وتقديم أعمال تُثري المشهد الثقافي. هذه النجاحات تُعد دليلاً على تغير الصورة النمطية للمسرح، وتُعتبر قصص النجاح هذه مصدر إلهام للمرأة في كافة المجالات الفنية، وتُظهر أن المسرح السعودي يتقدم نحو مزيد من الشمولية والتنوع.
كل هذا تكرس عبر شراكة بين وزارتي التربية والثقافة، عبر تشجيع المسرح المدرسي الذي يمثل النواة الأولى لنهضة مسرحية حقيقية وتطوير ذائقة يتسلح بها الجمهور وتربطه بهذا الفن الذي يعد مقياسا للتنمية البشرية الشاملة.
المسرح السعودي يبدو واعدا ويبشر بنهضة فنية كبيرة، وذلك لاقترانه بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وارتباطه بالدورة المالية في تحررها من الاقتصاد الريعي والعقلية الاتكالية.
هذا التطور سيعود بلا شك، بالفائدة على جميع أهل المهنة والاختصاص، ليس بالمملكة فحسب بل بباقي البلدان العربية.
ومما لا شك فيه أن لدى السعودية من إرث ثقافي وأدبي ما يجعلها تنتج مسرحا يشبهها ويغرف من تراثها المتنوع، خصوصا وأن بعض المجالات ما تزال بكرا، ولم تقترب منها الأبحاث والتوظيفات الفنية، لذلك يحق لنا أن ما سوف تنجزه النهضة الثقافية السعودية، يعد بمثابة القفزة النوعية، لا على مستوى المنطقة فحسب بل في العالم برمته، وذلك لما للمملكة من ثروات وإمكانيات وإشعاعات حضارية.