جرعة الإثارة السينمائية لا تكتمل عند براد أندرسون

الواقع والخيال لا يلتقيان في الفيلم الأميركي "مكسور" المعروض على شبكة نتفليكس.
السبت 2019/11/23
البطل يقفز في الهواء لإنقاذ ابنته

لو كان الفيلم الأميركي الجديد “مكسور”، الذي عرضته شبكة نتفليكس مؤخرا، يعتمد على فكرة الحلم أو الكابوس الذي يسيطر على ذهن بطله، فيدفعه إلى الغرق في متاهة الرعب والفزع والوقوع في المحظور، لربما جاء أكثر إقناعا وإمتاعا عمّا كان.

يعتمد براد أندرسون مخرج فيلم “مكسور” Fractured، على سيناريو يحاول أن يحاكي فيه أجواء بعض أفلام هيتشكوك الشهيرة، أو على الأقل، يحاكي بداياتها، وخاصة فيلمه “السيدة تختفي” The Lady Vanishes الذي أخرجه سيد أفلام الإثارة عام 1938، أي وقت كانت السينما لا تزال في عصر البراءة، ولم يكن “النوع” genre المثير قد رسخ بعد ورسخت شيفراته الخطابية مع الجمهور.

في البداية لدينا رجل هو “راي مونرو” وزوجته “جوان” وابنته “بيري”. الثلاثة في سيارة يقودها بيري في طريق خالٍ تماما في منطقة مغطاة بالثلوج يغلفها الضباب. كان من الممكن أن تكون منطقة خيالية تقع خارج الزمان والمكان الواقعيين. إلا أننا سنكتشف بعد قليل وجود مستشفى في تلك المنطقة التي لا يبدو أن الكثير من البشر يعيشون فيها، كما سنجد أن المستشفى يغصّ بالمرضى والراغبين في تلقي الإسعافات السريعة في قسم الاستقبال والطوارئ!

هجائية قاسية

أسرة مونرو كانت في طريقها لزيارة والدي الزوجة في عيد الشكر. مناقشة حامية تقع بين مونرو وزوجته جوان، تكشف تصدع العلاقة بينهما. توقف اضطراري عند محطة وقود لكي تقضي الطفلة حاجتها. الأب يحاول تنظيف السيارة، تخرج الابنة بيري وتتجه نحو منحدر خطير، فجأة يبرز كلب مخيف، تصرخ بيري، ينتبه الأب، يلقي حجرا في اتجاه الكلب فتسقط بيري في الحفرة، وعندما يحاول إنقاذها يسقط بدوره ويتمدّد بجوارها. لقد فقد كلاهما الوعي. تكتشف الزوجة ما وقع، ينهض الزوج فجأة مصابا في رأسه ووجه. هل أصيب مثلا بارتجاج في المخ سيبدو تأثيره بعد عدة ساعات وكذلك الابنة التي أصبح واضحا أن ذراعها على الأقل قد كسر؟ لا نعرف.

يقود الأب السيارة كالمجنون نحو المستشفى الذي يبدو أنه قد زُرع في هذا المكان من أجل الفيلم. ومنذ دخول المستشفى لن نخرج منها سوى قليلا، فهي ستصبح ديكور الكابوس الحقيقي الذي يعيشه مونرو.

الحالة في فيلم "مكسور" شبيهة بما جرى لبطلة فيلم هيتشكوك "السيدة تختفي"، لكن المعالجة مختلفة تماما

هنا نرى هجائية قاسية للنظام الصحي الأميركي. فالرجل يحاول الحصول على إسعافات عاجلة لابنته، لكنه مضطر إلى الإجابة أولا على العشرات من الأسئلة التي تكشف عقم البيروقراطية، بل وتشير من طرف خفي أيضا إلى أن هناك أشياء غريبة تجري داخل هذا المستشفى، خاصة عندما تبدي مشرفة الاستقبال، التي تسجل البيانات، اهتماما كبيرا بالحصول على موافقة الأب على تبرّع الطفلة بأعضائها إن اقتضى الأمر، بل ويلمح الرجل أيضا ما يجري في الخارج عبر الزجاج من نقل أعضاء بشرية إلى إحدى السيارات.

ستتكرّر بعد ذلك -خلال حالة الفوبيا التي ستسيطر على مونرو وعلى أجواء الفيلم- الكثير من الصور التي تشير إلى الاستيلاء على أعضاء المرضى ووضعها في أكياس وأوعية ونقلها إلى الخارج، خاصة بعد نقل الطفلة ووالدتها إلى الطابق السفلي الواقع تحت الأرض لإجراء أشعة مقطعية على دماغ بيري فلربما كانت مصابة بارتجاج.

ينتظر الأب على مقعد في الاستقبال ويغفل في النوم، ثم يستيقظ بعد مرور ساعات لكي يفاجأ بأن زوجته وابنته لم تعودا أبدا. وعندما يسأل يصرّ جميع العاملين على نفي أي معرفة لهم بزوجته وابنته مؤكدين أنه حضر إلى المستشفى بمفرده لمعالجة جروح رأسه!

الحالة شبيهة بالتأكيد بما جرى للبطلة الشابة في فيلم هيتشكوك “السيدة تختفي” التي اختفت رفيقتها في القطار ونفى الجميع وجودها أصلا. لكن المعالجة عند هيتشكوك تختلف تماما عنها عند براد أندرسون.

إثارة سينمائية
إثارة سينمائية

البداية دون شك، جيدة وكان يمكن أن تدفع لصنع فيلم شديد الإثارة والمتعة والإقناع، لو عرف كاتب السيناريو كيف يتعامل بمهارة وحنكة مع الحبكة، فإن أراد معالجة على صعيد الواقع لكان قد سلك دربا آخر كما شاهدنا مثلا في فيلم آخر شهير طرق موضوع الفساد داخل المستشفيات هو فيلم “غيبوبة” Coma) 1979). وإن أراد التعامل على صعيد الخيال، لكان قد اهتم بتصوير الفيلم من وعي رجل مختل، وهو ما يقتضي أسلوبا مختلفا تماما في التعامل مع الموضوع والشخصيات.

إلا أنه بدلا من تصوير مأزق بطل عاجز عن العثور على زوجته وابنته واتخاذ غيابهما الغريب المريب مدخلا لكشف عالم سري غامض شديد التعقيد داخل المستشفى، تتجه الحبكة وجهة مصطنعة تحاول التأكيد على أن رأي مونرو مختل أو في أفضل الأحوال، مشوّش مضطرب ذهنيا بفعل الصدمة، وفي الوقت نفسه يمتلك القدرة على رؤية أشياء تقع في الواقع تكون مقنعة لنا كمشاهدين وتجعلنا نتعاطف معه. أي أن الفيلم أراد التلاعب بالحبكة وقد تلاعب بها مرات ومرات، ولكن دون جدوى، لأنه بعد مرور الساعة الأولى أصبح يكرّر ويدور حول نفسه.

أما أن مونرو ذو عقل مشوّش، فقد أرجعه من خلال الحوار، إلى إدمانه القديم للخمر، وتسبّبه بتهوّره وإهماله في مقتل زوجته السابقة، ثم يخرجنا الفيلم من عالم المستشفى إلى البحث البوليسي عن الحقيقة؛ شرطية وزميلها جاءا صدفة إلى المستشفى يستعين بهما مونرو لكشف سر اختفاء زوجته وابنته..

لكن استمرار نفي الجميع رؤيتهما للزوجة والطفلة يفقد مونرو أعصابه ويسلك سلوكا عنيفا، ممّا يدفعهما إلى الاقتناع بأنه مضطرب يتخيل أشياء لا وجود لها. لكنه سيعثر في المستشفى على الدمية التي أعطيت للطفلة وعلى الوشاح الذي كانت ترتديه. ومع ذلك سينتهي الفيلم بتحوّل آخر مفاجئ بعيد كل البعد عن تلك المقدمات.

أسئلة حائرة

كل هذه الالتواءات في الحبكة مقصودة لذاتها، ولكنها لا تفيد الفيلم كثيرا بقدر ما تربكه. ولا شك أن المشاهد الذكي الذي خبِر التعامل مع أفلام الإثارة والغموض، سيجد نفسه مضطرا إلى طرح الكثير من الأسئلة حول أشياء كثيرة مثل؛ هل كان كل ما دار مع الزوجة والابنة بعد دخول الاستقبال في المستشفى، وإهداء أحد الأطباء دمية للطفلة تم العثور عليها في ما بعد، ثم وصول الدكتور “بيرثرام” الذي يداعب الطفلة ويخبرها أن عينيها أجمل عينين رآهما في حياته، ثم يأمر بإرسالها إلى قسم الأشعة، هل كان كله خيالا؟

وهل كانت الطبيبة النفسية التي حضرت لمساعدة مونرو من ضمن المؤامرة الجماعية كما يقول مونرو، أم كانت تريد بالفعل مساعدة شخص مختل عقليا بفعل ماضيه كمدمن سابق للخمر (وإن كان قد كف عن الشراب منذ 8 سنوات!)، وأيضا اضطراب علاقته مع زوجته التي ليس من الممكن أن تجعله يقتلها بالطبع!

أجواء الحالة العقلية المضطربة، من حيث زوايا الكاميرا والإضاءة وتكوين اللقطات وحركة الكاميرا والمونتاج، يتم تصويرها داخل أروقة المستشفى وغرف العمليات وغير ذلك، بأسلوب واقعي بسيط ومباشر، بحيث تغيب الظلال والانعكاسات الغريبة على الجدران، التي كان يمكن أن توحي بالاضطراب أو التشوّش العقلي، وبأن ما نراه ينبع من ذهن رجل مضطرب مشتّت يعاني من البارانويا.

ولكن الغريب أن في معظم الأحيان يبدو منطق مونرو هو الأقوى والأكثر استقامة وإقناعا ممّن يحاولون إقناعه وإقناعنا بأنه مضطرب، وأنه خلق لنفسه عالما موازيا غير العالم الحقيقي، كما تقول له الطبيبة النفسية التي تظهر فجأة كما لو كانت قد أتت لتلقين المشاهدين درسا في طبيعة الشخصية المنحرفة عن السلوك القويم وكيف يمكن أن تخلق لنفسها قصة خيالية بكل تفاصيلها الدقيقة!

بين يدي هيتشكوك قبل أكثر من خمسين عاما كان فيلم كهذا يمكن أن يصبح مختلفا تماما، يلعب في المنطقة الواقعة بين الوعي واللاوعي ويحمل مغزى ومعنى. لكن براد أندرسون، يفضل السير على المألوف والمعتاد والمتكرر، لذلك يميل للتنفيذ دون خيال ودون ابتكارات خاصة أو طموح في الشكل وفي صياغة اللقطات والمشاهد مع الاعتراف بوجود طرافة في تصوير بعض الشخصيات، مثل شخصية الدكتور بيرثرام التي قام بها ببراعة مثيرة للإعجاب الممثل المخضرم ستيفن توبلوفسكي.

أما سام وورثنغتون فقد أدى دور روي مونرو كما رسمه السيناريو، لكنه برع بوجه خاص في مشهد الجدال بينه وبين المشرفة التي كانت تدوّن بياناته عند دخول المستشفى وتطرّقت إلى أدقّ تفاصيل حياته بما في ذلك زوجته السابقة ورقم التأمين الصحي الخاص بها، وعمله، وعلاقته بزوجته الحالية ومتى تزوجها، وكلها تفاصيل بدت أنها مطلوبة للاستفادة منها لتدبير أمر ما ضده (ما أوحى به الفيلم أن زوجته وابنته تعرضتا لانتزاع أعضائهما بغرض بيعها).

أما نقد الفيلم لعقم النظام البيروقراطي في المستشفيات وغياب الضمانات للمواطن الأميركي في نظام التأمين الصحي، فكلها أشياء لا تضيف جديدا. وربما لو كان قد تم التعامل معها سينمائيا وبصريا من خلال صورة كابوسية تضع بطلنا في منطقة بين الخيال والواقع، لكُنّا قد أصبحنا أمام فيلم شديد الاختلاف.

13