تونس تغني صليحة في الذكرى الـ62 لرحيلها

مسابقات شعرية وموسيقية تحتفي بالسجل الفني لمطربة تونس الأولى.
الأربعاء 2020/11/25
روضة عبدالله تغني صليحة في سهرة فنية افتراضية

في السادس والعشرين من شهر نوفمبر من كل عام تحتفي محافظة الكاف التونسية بذكرى رحيل المطربة صليحة، التي ظلت نموذجا للصوت الاستثنائي القادر على غناء كل المقامات، وها هي مدينتها ومسقط موهبتها بلدة نبّر تحتفي هذا العام، كعادتها، بالفنانة الراحلة عبر يوم موسيقي تحت عنوان “تونس تغني صليحة”، يجمع ثلة من الأصوات التونسية التي ستنشد على امتداد يوم كامل من سجلها الغنائي الزاخر بالطرب كلمة ولحنا.

تونس -  يتزامن يوم 26 نوفمبر الجاري مع الذكرى الثانية والستين لوفاة صليحة (1914 – 1958)، المغنية الملقبة على مرّ الأجيال، بمطربة تونس الأولى.

وستقام بهذه المناسبة العديد من التظاهرات الفنية والثقافية، أبرزها ما سيحتضنه مسقط رأسها، محافظة الكاف، في الشمال الغربي التونسي، وفي منطقة نبّر بالتحديد، حيث تنظم المندوبية (المديرية) الجهوية للشؤون الثقافية، يوما موسيقيا يحمل عنوان “تونس تغني صليحة”، وذلك تحت شعار “المحافظة على الخصوصية والانفتاح على التجارب الفنية”.

برنامج ثري

أعدّ المنظمون برنامجا يتضمّن قراءات فنية مستحدثة لموروث الفنانة مع المحافظة على خصوصيته، وهي مسابقة مفتوحة لكل الفرق الموسيقية، على أن تقدّم كل منها أغنيتين على الأقل، للفنانة صليحة.

وتقوم المسابقة على مدى التوفيق في إثراء الأغاني المقدّمة بإضافات إبداعية مبتكرة كالتوزيع الموسيقي وتوظيف الآلات الموسيقية، وكذلك تقنيات الأداء الفردي والجماعي، مع المحافظة على الخصوصية الفنية لأغاني الفنانة الراحلة من حيث اللهجة والمقام الموسيقي والروح الفنية.

المطربة التونسية استُلهمت من سيرة حياتها وندرة صوتها روايات وقصص أفلام سينمائية ومسرحيات غنائية

كما تنتظم بالمناسبة أيضا، مسابقة شعرية، بشرط أن يكون النص جديدا ومستلهما من غناء وبيئة صليحة، وقابلا للتلحين.

ولم يستثن أو يستبعد الأطفال من هذه التظاهرة الفنية الثقافية التي ستقام بدار الثقافة في بلدة نبّر، التي سمّيت باسم ابنتها صليحة، وستقام مسابقة للغناء الفردي لاختيار أحسن صوت طفولي وشبابي.

وخصّصت اللجنة المنظمة والجهات الداعمة لهذا اليوم الاحتفالي، جوائز نقدية بهدف التشجيع والمحافظة والمواظبة على هذا الإرث الفني النفيس الذي تزخر به منطقة الكاف التي تعدّ بحق، عاصمة للفنون في تونس، وللغناء والمسرح على وجه التحديد.

ونظرا إلى الوضع الصحي الذي تمرّ به البلاد بسبب جائحة كورونا، ستقام بمناسبة الذكرى الـ62 لرحيل صليحة، سهرة فنية افتراضية، تحييها الفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة المايسترو محمد الأسود، ومشاركة كل من المطربات؛ روضة عبدالله وناجحة جمال ولبنى نعمان وسيرين الحمامي ونورهان الهداوي، بالإضافة إلى المطرب صلاح مصباح.

وجاء في مطوية المهرجان “كانت صليحة ولا تزال نغمة معبرة وأغنية صادحة رددها جيل وشدا بها.. لكل هذا نحتفي بصليحة ونتجمّع حولها أبدا، نتعطر بعبيرها ونتعمّد بألحانها الخالدة، ونحن نعيش هذه الدورة الجديدة.. حتى تكون الدورة القادمة مغاربية منفتحة على مواهب ومبدعين وأساطين الموسيقى في مختلف الأقطار المغاربية كي نجعل من هذا المهرجان محجّا وقبلة للمتيمين بالموسيقى العربية التقليدية ومريدي الفن الجميل”.

نجمة كل الأوقات

المطربة صليحة دخلت المخيال الشعبي التونسي، وقد استُلهمت من سيرة حياتها وندرة صوتها روايات وقصص أفلام سينمائية ومواضيع مسرحيات غنائية.

ولا يزال مقياس جودة الصوت وحسن الأداء في غالبية المسابقات الغنائية في تونس، هو تقديم أغنية أو مقطع من تراث سيدة الغناء التونسي بلا منازع.

يقول المؤرخ والناقد الفني التونسي محمد بوذينة، إن صليحة هي الوحيدة التي أحبّها الأغنياء والفقراء، الحضريون والريفيّون، ذلك أنها نهلت منذ طفولتها من منابع ألوان الغناء الريفي كـ”الصالحي” و”العروبي” في منطقة الشمال الغربي التونسي، وعند تنقلها إلى مدينة تونس صحبة شقيقتها بقصد العمل كخادمتين في منازل الأثرياء والميسورين، اكتشفها، وبالمصادفة، الموسيقي المعروف الباجي السرداحي، صاحب التخت الذي يعزف فيه على آلة العود، وذلك عندما استمع إلى صوتها ينبعث من فسحة إحدى المنازل سنة 1940، وسرعان ما تعرّف إليها وأعجب بما غنّت له فتبنّاها، وقدّمها إلى الإذاعة حيث اقترن بها اسمه، وأدمنت على صوتها آذان المستمعين.

الأقدار والمصادفات بدأت برسم مصير “صلّوحة الحنّاشيّة” (اسمها الحقيقي)، فقد شاءت الصدفة مرة ثانية، أن يحضر حفلها الأوّل المباشر المحامي المنصف العقبي، فهنّأها بالنجاح ودعاها صحبة الفرقة إلى حفل عائلي ببيته حضره ثلة من أعيان تونس ووجهائها كمصطفى صفر، شيخ المدينة ورئيس جمعيّة الرشيدية الموسيقية الشهيرة آنذاك، فدعاها إلى العمل فيها مقابل راتب شهري وإقامة مضمونة ومريحة مقابل التخلّي عن مكتشفها الأوّل وعن المشاركة في الحفلات الخاصة والعامة. وهكذا أصبحت صليحة مطربة الرشيدية الأولى، بل نجمة تونس في الأربعينات والخمسينات، بلا منافس. 

صليحة تظل أغنية أكبر من أن تسجن في أسطوانة أو شريط، إنها إحدى أساطير الغناء التونسي على الإطلاق

وتعدّ “الرشيدية” – نسبة لمحمد الرشيد باي (1710/ 1759)، أحد ملوك تونس المهتمين بالفن – من أعرق الفرق الفنية في تونس والعالم العربي، ولا يعتلي منصة الغناء فيها إلاّ أجود الأصوات وأكثرها صقلا وتمرسا. لكن صليحة غنّت جلّ أغانيها على تنوّع نغماتها ومقاماتها وموضوعاتها في إطار مدرسة الرشيدية الفنية وبعناية كبار المؤلفين والملحنين مثل العربي الكبادي وأحمد خيرالدّين وجلال الدّين النقّاش ومحمد المرزوقي، أما المغني والملحن خميّس الترنان، فقد استأثر بالنصيب الأكبر من الألحان التي قدّمت لصليحة، لعل أبرزها “ياللي بعدك ضيّع فكري” و”أم الحسن غنات فوق الشجرة” و”كيف دار كاس الحب”.

وكان الرهان على نجاح مشروع صليحة، داخل الفرقة الرشيدية وقتها، هو إيجاد صنف أو توليفة تجمع بين صوت صليحة الواعد وما يمكن أداؤه وتقديمه من خلاله. ومع التجريب المكثّف والنبش في التراث رست صليحة ومن حولها على “الفوندو”، وهو قالب غنائي تراثي يجمع ويزاوج بين الغناء البدوي والحضري في مستوى النص والمقامات والإيقاعات.

ويذهب الكاتب والموثّق التونسي الصادق الرزقي، في كتابه “الأغاني التونسية”، إلى أن كلمة “فوندو” إيطالية المنشأ، تشير إلى نوع من الأحجار الكريمة، وأصبحت تستعمل في ما بعد للدلالة على نوع من الأغاني العتيقة التي تجمع بين الرصيد الكلاسيكي والشعبي مثل أغاني “فراق غزالي”، “يا خيل سالم”، “شوشانة”، “لميت لم المخايل”، وغيرها من تلك التي تؤالف بين اللونين الريفي والحضري، وكان ذلك انعكاسا لحقبة كثرت فيها ونشطت حركة النزوح من الريف إلى المدينة بسبب ظروف اجتماعية قاسية.

عبّرت صليحة بصوتها عن تحوّل كبير في تاريخ الغناء التونسي، الذي تزامن مع تقلبات سياسية واجتماعية عسيرة، واستوعبت تجارب موسعة ومختلفة ساهمت فيها ترسانة من الشعراء والموسيقيين. لكن المشروع الذي طمح إليه الرشيديون، انحصر تأثيره في تونس وبعض بلدان المغرب العربي، ولم يكتب له الانتشار خارج هذه المنطقة مثلما كان الأمر مع المصريين.ولأسباب يصعب حصرها لم يتمكّن المراهنون على صوت صليحة بكل مساحاته وقوّته وتلويناته، من جعل هذه الأسطورة الغنائية بمثابة أم كلثوم في مصر ضمن مشروعين فنيين ثقافيين – وحتى سياسيين – يتنافسان منذ ذلك الوقت وربما إلى الآن.

هذا التنوّع بين بيئة ريفية بسيطة ونقية رغم حالة العوز والفقر، أعطتها صفاء الصوت وعذوبته، وبين حياة مدنية مكنتها من الالتقاء بأشهر الموسيقيين والاستماع إليهم، وقد أكسبها هذا التنوّع غنى وتفردا في الشخصية، بالإضافة إلى تلك الدراما الهائلة من سيرة حياة مضطربة إلى حد التناقض، فمن فتاة ريفية مكسورة الجناح، قدمت إلى العاصمة كي تعمل خادمة من أجل كسب لقمة العيش، إلى مغنية في القصور وجليسة للأمراء وعليّة القوم.

صليحة تظل عصية على الترويض، وأغنية أكبر من أن تسجن في أسطوانة أو شريط.. إنها إحدى أساطير الغناء العربي على الإطلاق، أمّا عن عدم انتشار وشهرة أغانيها في العالم العربي، فأمر يعود بالدرجة الأولى إلى تقصير الآلة الإعلامية وتكاسل المبدعين التونسيين، بالإضافة إلى تقصير بعض أهل المشرق وعدم بذلهم جهدا كافيا لفهم اللهجة التونسية.

16