التربية والثقافة والتعليم مشروع "نحو الأمية" في الأنظمة العسكرية

“أيها الناس:/ لقد أصبحت سلطانا عليكم/ فاكسروا أصنامكم بعد ضلال،/ واعبدوني”، هكذا قال الشاعر السوري نزار قباني في قصيدته الشهيرة “دكتاتور عربي” التي رسم فيها صورة كاريكاتيرية لكنها مؤلمة لبعض المستبدين العرب، هؤلاء الذين طمسوا التنوع الثقافي وكبحوا جماح التنوير الفكري والمعرفي وسيجوا الذائقة الفنية، وقيدوا الحريات والآراء والإبداع، خوفا من شعوبهم.
الأنظمة الشمولية التي حكمت بعض الأقطار في العالم العربي، وأخفت جبروتها وتسترت تحت شعارات براقة جوفاء، أجرمت، حقيقة، في حق شعوبها حين أقدمت عل تدجين الأجيال الناشئة عبر مؤسساتها التربوية والثقافية، وآلتها الإعلامية المضللة فأفرزت خواء فكريا ما زالت آثاره المدمرة واضحة للعيان، وستستمر كالوباء المعدي، ذلك أن ضحايا ثقافة تلك الشعارات القاتلة ما زالوا يستمرون في “تربية” أطفالهم، وإنتاج “إبداعات” فنية وثقافية ذات طابع وبائي.
كانت تلك الأنظمة العسكرية التي جاءت على ظهور الدبابات في ستينات وثمانينات القرن الماضي، تعلم شعوبها الجهل والأمية والتخلف، وتحرمها من أي انفتاح ثقافي، وذلك باسم الحفاظ على هوية الأمة وصونها من الضياع والتلاشي، والذوبان في “متاهة الغرب الرأسمالي ذي الأطماع الاستعمارية والامبريالية”.
السلطة والثقافة الواحدة
الآن نلحظ النتائج الكارثية التي تسببت فيها تلك الأنظمة القمعية، على مستوى الأفراد والمجتمعات، سواء يظهر ذلك من خلال فشل تام في بناء دولة القانون والمؤسسات التربوية والثقافية الجديرة بمواكبة العصر، أو تظهر النتائج أيضا في ردات الفعل الطائشة والانفعالية المتمثلة في حالات الانسلاخ والتنصل من الهوية القومية، وكل ما له علاقة بأصالة المجتمع ومقوماته الفطرية الطبيعية، ذلك أن تلك “الأصالة” المزيفة التي دعت إليها الأنظمة العسكرية العربية، لم تكن أصيلة بل نوعا من كلمات الحق التي يراد بها باطل.
مارست تلك الأنظمة تزويرا شمل جميع المجالات فأفرز تشويها في الذائقة الفنية والثقافية، شمل بدوره، سلوكيات شاذة وقمعية تمارس الإقصاء والتحطيم والتهشيم لكل ما يحمل بذرة إبداعية، ويروم الخروج عن القطيع.
الأمثلة كثيرة وموغلة في العار والتخلف، فمن منا لا يتذكر كيف أقام الزعيم الليبي معمر القذافي محرقة للآلات الموسيقية الغربية باسم الحفاظ على الأصالة العربية، وحماية الذائقة العامة. والقائمة تطول لتشمل قاهرة الستينات، ومن بعدها دمشق وبغداد والخرطوم وحتى الجزائر.
كانوا يعلمون الأمية في مدارسنا وجامعاتنا، مكثوا على صدورنا واستوطنوا رؤوس أولادنا زهاء عقود طويلة وجندوا لذلك أساتذة “أكفاء” ليقولوا حتى لعقلنا الباطن: انس ما يمكن أن تتذكره من قيم الحرية والتحرر.
صارت كتبنا ومناهجنا المدرسية مسخرة في عيون خبراء اليونسكو، شهاداتنا الأكاديمية لا يعترف بها حتى الموقعون عليها، امتحاناتنا تباع وتشترى بعلبة تبغ أو ربطة خبز، معلمونا يتقربون لتلاميذهم من أولاد الأثرياء خشية إملاق أو طمعا في ترقية.
الأنظمة العسكرية التي جاءت على ظهور الدبابات علمت شعوبها الجهل والأمية والتخلف، وحرمتها من كل انفتاح ثقافي
علمونا أن الآخر ظالم ومستبد ومتخلف وعنصري وهمجي، حتى بتنا نهرب إليه فضولا ومعرفة لجحيمه على طريقة “نارك ولا جنة هلي” وكي نقدر “فردوس حاكمنا” ولا نرفس نعمته، فنسبح باسمه بكرة وعشيا.
كذبوا على الجغرافيا والتاريخ فصرنا نعتقد أن قبلهم لم يكن هناك “قبل”، ابتداء الزمان من يوم جاؤوا.
أفسدوا الذائقة الفنية وحتى الهندام الرسمي، فحاولوا جعلنا قوما بلهاء، يزدرون الموسيقى والسينما والمسرح، يكرهون الجمال والأناقة، وينظرون إلى كل أجنبي بأعين الريبة.
حولونا إلى جماعة يخافون من ألسنة أطفالهم وحيطان بيوتهم.
هذا ما فعله بنا الجلاوزة والاستبداديون وعبدة الرأي الواحد، حتى صار أطفالنا في المدارس يعتقدون أن من يهتفون باسمه كل صباح، وبإيعاز من “مدرسيهم الأفاضل”، هو الذي يحكم العالم. وله الفضل في مجيئهم كما يحدث في كوريا الشمالية.
قدوم الربيع
هم يعرفون أن الخيل تساق إلى موارد الماء غصبا عن صهيلها، ساعة يريدون، لكنهم لا يدركون أنها لا تشرب إلا متى تريد ذلك، وأنها تركل مغتصبيها ساعة معركة ظالمة.
هم يدهسون الأزهار، لكنهم لا يستطيعون منع الربيع من القدوم.
فعل بنا الحكام الظالمون ما لم يفعله بنا الأعداء التقليديون، سبَوا أفكارنا وعقولنا قبل مدننا وأحرارنا، عاثوا فسادا في رؤوسنا قبل خرائطنا، خرائطنا الورقية التي حرروها قبل بلادنا المغتصبة.
من أين جاءت هذه البلية يا ترى؟ هل قدر لشعوبنا ألا تستريح إلا في قبورها، هل هذا هو تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا؟
هل نحن في “الدائرة الشريرة” التي سخر بها فوكوياما على عقولنا ونظر إلى نهاية تاريخ جائر، يحول الأغلال والقيود إلى أساور، فيجعل الظالم متفوقا والمظلوم شخصا يمارس قدره الذي خطه التاريخ له.
وجاءت الصفعة التي لم يكن يتوقعها أحد، لم تكن نسائم ربيع بالمفهوم الرومانسي الناعم، بل عاصفة تهد عروش الاستبداد رمسا برمس، وتقول لمن يعتقدون أنهم خالدون “حلوا عن سمائنا، فلنا على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
إنها النمور في يومها قبل العاشر (على رأي الكاتب السوري الساخر زكريا تامر)، حين يذلونها ويحاولون تدجينها إلى قطط. ذهل العالم الذي كان ينظر إلينا كسلاحف تقرض الوقت وترفض الانقراض.
إنها الخيل التي قد تصبر طويلا على العطش، لكنها تنطلق في غفلة عن مروضيها وتتحرر من الإسطبلات وإن كانت مترفة، وتتحرر من حدواتها وإن كانت من ذهب.
احتار الغرب في تقييم ما يحدث، منهم من آزر دون إيمان واضح مثل “الطلقاء” في فتح مكة، منهم من أظهر المساندة وأبطن العداء مثل المنافقين في يثرب، ومنهم من جاء يفتح ذراعيه مثل سلمان الفارسي.
أما الموقف العربي الرسمي فبدا مرتبكا لدى الأنظمة القمعية، كمن يتحسس أطراف بدنه وهو يشاهد “الفلقة” تفعل فعلها في “قاووش” كبير وطابور أطول. منهم من هلل للربيع بثقة تامة حين رأى الناس تنضم إليه أفواجا، ومنهم من صاح “هذه مؤامرة تحاك ضد الأمة”، وهي عبارة ممجوجة، لم يعد يصدقها أبسط العوام، ومنهم الذكي الذي “بل ذقنه” استعدادا لحلاقة لا مفر منها.
تسلل إلى ربيعنا و”ربعنا” غربان كثر، حاول ويحاول جراد الردة الانقضاض على براعمنا، خرجت فئران من جحورها، لكن فزاعتنا الأقوى والأفتك والأحرس، هي ألا ننظر إلى الوراء إلا بغضب.
كلمة في الزحام: تحملنا وصبرنا وعانينا وسكتنا، مثل جمل في صحراء الجهل والظلم والاستبداد. فيا حادي العيس عرج كي نودع سنوات الصمت والقهر.