إذا كنت تريد الكتابة فكن الوجه والمرآة معا

تحتاج الكتابة مثل غيرها من الأفعال الإبداعية إلى خلق مسافة مطاطية بين النص وكاتبه، مسافة تطول وتقصر حدّ الالتصاق بنقطتها الأولى الذات، لكن هذه اللعبة قليلا ما يتقنها المولعون بالكتابة في العالم العربي، حيث القراء يمارسون رقابة قاسية على كل الأقلام، ولاسيما النسائية، ويقرنون الأبطال الخياليين بذات الكاتب، وهذه بداية علاّت حال الأدب العربي.
إن من يكتب بلغة أو لهجة لا يحلم ولا يغضب ولا يشتم بها، يصبح أكثر إتقانا لها لأن المسافة تسمح له بالتزويق والدخول في غواية التحدي ولذة الذهاب نحو الآخر، فليس هناك ما هو أروع من تقبيل الحياة بأكثر من فم.
علمتني تجربتي الشخصية في كتابة النص المسرحي السوري وبالعامية الدمشقية جمال الانتماء الإرادي وسحر التوأمة بين أرصفة العالم وعدم السخرية من اللهجات، وماذا يعني أن تقول لكل الناس: إني أحبكم.
مسافة كالمطاط
الانتماءات كالأثواب، تضايقنا أحيانا، نبدلها، نقصر فيها أو نوسع، ولكننا لا نستغني عنها، فما أصعب وما أمرّ من أن تقف على تخوم الأشياء وأطرافها، تلامسها ولا تحضنها، تبللك ولا تستحم فيها، وكأن قدرك أن تكون ناظر محطة يعرف مواعيد القطارات واتجاهاتها دون أن يركبها.
أستغرب أحيانا من الذين لا يجدون إلا أنفسهم وحياتهم الخاصة مادة للكتابة الروائية، هل أصيبوا بقصر النظر أو الفقر في الخيال والمعاشرة؟ هل أن حياتهم استثنائية إلى هذا الحد؟ أم أن المشكلة تكمن في سعيي أنا نحو الهروب من مكاشفة الذات على الورق وعجزي على العيش تحت الشمس وتحمل الشتائم قبل القبلات.
الأعمال الفنية العربية التي أدغمت فيها شخصيات الكاتب بالراوي بالشخصية الأساسية ضمن صوت واحد وصريح ومعلن قليلة جدا، لا بسبب الرغبة في النزوع نحو الالتباس الفني، وإنما خوفا من مصارحة قد ترخي بتبعاتها على الأهل والأصدقاء.
هناك كتّاب دون منابر وهناك منابر دون كتّاب، هذا هو حال الكتابة في عالمنا العربي الذي ما زال قائما
أعرف امرأة انفصلت عن زوجها بسبب رواية كتبتها، لأن رجلا قد ظهر ويزعم أنه بطلها الفحل المقصود متنقلا بنسخة من الرواية بين المقاهي وقد وضع خطا تحت اسمه المغوار، وأعرف رجلا فضح سره الورق فتسابق الناس على نبذه وأوغل في الغربة والانبتات فصغر حجمه في عيون الآخرين بسبب تحليقه عاليا.
كما عاتبت شخصيا لقمان ديركي وأدنته من فمه على النيو لوك الذي أطل به بعد أن قال في قصيدة سحيقة “وما وضع في عنقه زردا وما نقش وشما على ساعديه ولكنه كان يمشي في الشوارع المزدحمة كعلامة فارقة”.. ربما سيكتب لقمان قصيدة أجمل لو يعترف يوما بنكوصه لعهده في لحظة اعتراف لا يعترف بها إلا الشعر وعلى شاكلة أن موت المتنبي الشهير كان أكثر شعرا من بيته الذي قتله.
الخائفون هم الذين لا يستطيعون الحديث عن خوفهم والشرفاء هم الذين تحدثوا عن عارهم بشرف، وأروعهم هم الذين تحدثوا عن غيرهم بأنفسهم أو عن أنفسهم بغيرهم فكانوا الدمية ومحركها ولم يتحدثوا عن الكتابة فما أنبل وما أعظم أن يكون الواحد الوجه والمرآة وتصنع المسافة من مادة المطاط، تطول وتقصر كما نريد لها أن تكون دون أن نخاف إلا من الخوف.
قد يتهافت كتّاب دون غيرهم على منبر إعلاميّ دون غيره وهم في ذلك يشبهون ركّابا يتزاحمون على الجلوس في المقاعد الأماميّة لحافلة ستوصل الجميع دون استثناء ونحو محطّة واحدة، ولكنّ الأخيرة لا تعترف إلا بالأفضل.
عشق مزمن
أدمن بعض محترفي التهميش والإقصاء ثقافة التغييب والإسكات رغبة منهم في الاستحواذ على المنبر ولا يعلمون أنّ كلمات الكبار تسمع دون ميكروفونات، بل وتصبح أكثر تأثيرا إن هم آزروا المقاعد الخلفيّة.
يعلم التاريخ البشري أنّ كتّابا كثيرين كتبوا بأسماء مستعارة لسبب أو لآخر، وأنّ آخرين كتبوا بأسماء معارة لسبب أو لآخر، ويعلم التاريخ أيضا أنّ فئة أخرى توقّفت عن الكتابة لأسباب أو لأخرى، ولكنّه احتفظ بأجمل ما كُتب واعترف بأجمل ما لم يكتب وقدّر الأسباب ونسي الآخرين.

الانتماءات كالأثواب، تضايقنا أحيانا، نبدلها، نقصر فيها أو نوسع، ولكننا لا نستغني عنها، فمن الصعب الوقوف على التخوم
من أصابته لوثة الكتابة سوف يكتب، متى وأينما وكيفما شاء: على الجدران والطاولات والهواء، سوف يكتب بقلم أو إصبع أو دون أصابع، وسوف ينشر على صحيفة أو موبايل أو حبل غسيل، وسوف يقرأ له قارئ أو أميّ أو جني. وسوف يقول له شخص ما “أحسنت”، وإن كان بقّالا في حارته، أو امرأة تحبّه أو حتّى مرآة صباحيّة كشفته ذات صباح متلبّسا بالحلاقة والندم.
الكاتب الذي يتنقّل بين المنابر المختلفة كالطير الذي لا يستكين إلى شجرة واحدة، شرط أن لا ينسى جناحيه وطريقته في التغريد.
الكاتب الذي يثبت في مكانه طويلا يتحوّل مع الوقت إلى رسم تبهت ألوانه فيملّها الناس وما أدراك ما الملل.
الملل إذن هو روح تموت وتتفسّخ داخل جسد ما زال حيّا ونضرا. قد نتذكّر لون الأسطح والقرميد والأشجار والحقول، ولكن من يتذكّر منّا لون الحرباء؟ من يتذكّر لون البراري قبل أن يمرّ عليها الربيع بألوانه! من يتذكّر أسماء الأباطرة والملوك في عهد دانتي وشيلر وراسين وغوته؟
يخيّل للمرء أنّ الصخرة التي يدفعها سيزيف كل صباح هي حصان امرئ القيس الذي حطّه السيل من علٍ، وهي كناية عن الكاتب الذي يعي جيّدا وهم القمّة ومع ذلك يسعى إليها، أمّا سيزيف فهو هوس الكتابة وغليان الحبر في الأقلام.
هناك كتّاب دون منابر وهناك منابر دون كتّاب، هذا هو حال الكتابة في عالمنا العربي وسيظل هذا الخلل قائما ما أقامت بيننا الضغائن والمحسوبيات الضيّقة، بل الأمر جزء من جدليّة المناسب وغير المناسب التي وقفنا أمامها كمعضلة دون حلول.
الغريب في الأمر أنّ كتّابا يشتكون من ضيق الهامش واتّساع التهميش ضدّ أهل المهنة يمارسون – هم أنفسهم ـ أشنع الأساليب ويأتون بمثل ما يدّعون مقارعته ومواجهته.
لقد كان الجاحظ دقيقا حين فرّق بين الكتّاب والكتبة ووصف الكتابة بالصنعة أو المهنة وليس الامتهان لأنّه ارتهان، أمّا الهواية فغواية وما أجمل الغواية حين تمسي عشقا مزمنا وعصيّا عن المنابر والتصنيف.