بين الأفلام والمسلسلات.. ضحكات قصيرة وتنهدات طويلة

السينما في أذهان غالبية منتجيها المصريين لم تعد تتحمّل، هذه الأيام، إلاّ الضحك ومهما كان الموضوع في مفهوم يفصل وبشكل واضح وصريح بين الفيلم والمسلسل. الأول يمنحك ما يزيد عن الساعة وقليل من الضحك المفترض، والثاني يستدرّ كل ما أوتيت من عواطف ومشاعر وربما دموع، لمدة تقترب من الثلاثين يوما مع بعض التوابل والنكهات الكوميدية من حين إلى آخر.
لم يعد هناك وجود لمسلسل كوميدي أو فيلم درامي. ولّى زمن الموعد مع الضحك أمام التلفزيون كل مساء أو عشية كل خميس كما كان يحدث مع مسلسلات أيام زمان، من فصيلة “إبراهيم الطاير” لعادل إمام أو “الرجل والدخان” لمحمد صبحي أو حتى “راجل و6 ستات” لأشرف عبدالباقي، من صنف السيت كوم في السنوات الأخيرة.
ولم نعد نستمتع بأفلام “توجع القلب” من فصيلة “الأرض” ليوسف شاهين، أو “الحب الضائع”، لهنري بركات أو حتى “الراقصة والسياسي” الذي أدّته نبيلة عبيد، باقتدار كبير، للروائي الشهير إحسان عبدالقدوس.
فرز واضح
صار الفرز واضحا: إن أردت أن تتسلّى وتضحك فاختر شريطا كوميديا من تمثيل جيل الشباب الساخر والمعلق على كل شيء، وعلى شاكلة أحمد حلمي، محمد سعد، وهاني رمزي، رغم أن الساحة الكوميدية المصرية في الفن المصري ظلت تعاني تدهورا وغيابا للممثلين أصحاب الجماهيرية الكبيرة. وظلت لفترة مقتصرة على بعض الأسماء التي كانت تعتبر ممثلة لجيل الشباب في نهاية التسعينات، كمحمد هنيدي.
توقّف ظهور نجوم الكوميديا بعد ذلك، إلى أن جاءت موجة العروض المسرحية التلفزيونية، أو ما يطلق عليها إعلاميا “مسارح الفضائيات الخاصة”، التي بدأت منذ أعوام قليلة بعروض “تياترو مصر” للفنان أشرف عبدالباقي، وتبعها المزيد من العروض المشابهة مثل “مسرح مصر”، و”مسرح النهار” فساهم ذلك في جعل شبابه أسماء لامعة في الكوميديا في فترة وجيزة.
عموما، لا فرق ولا مسافة واضحة بين مثل هذا المسرح المعتمد في أغلبه على التهريج أو ما يشبهه، وبين الأفلام الكوميدية التي استفادت من هذا النمط الشعبي وعلّبته ثم سوّقته طلبا للربح والانتشار، خصوصا في بلد مثل مصر. لا تحتاج لهجته إلى شرح أو معاناة في فهمها وهضمها لدى جمهور عريض على امتداد العالم العربي.
أمّا المسلسلات فصارت نموذجا لـ”النكد” كما تقول العامة، ذلك أنها تتميّز بالإطالة والتمطيط في عصر السرعة والاختصار، ثم إنها لا تلزم إلاّ ربات البيوت بمتابعتها في حين أن جيل الشباب لا يمتلك الجلد الكافي للمثول أمام شاشة التلفزيون كي يعرف ماذا سينجرّ عمّا حصل في الحلقة السابقة. إنها “دقّة قديمة” كما يقول المصريون.
أضف إلى ذلك أن الكوميديا “حبالها قصيرة” وسرعان ما تقع في الملل والتكرار، إن هي تجاوزت نصف الساعة، فمن أين لك أن تضحك أحدا في كل لحظة مثل ما يحدث مع قفشات وسائل التواصل الاجتماعي وتغريداته التي يتبارى الجميع على إغنائها وتطويرها والمزايدة عليها في كل لحظة.
الكوميديا حقل يعسر المشي فيه، فهو محفوف بالمخاطر ومهدّد بالإفلاس و”البياخة” في كل لحطة تفقد فيها القدرة على الإضحاك. أمّا الدراما، فبإمكانك أن تستغل فيها الوقت والقلق والانتظار، وترقّب ساعة الانفراج. إنها فن الاستمتاع بالملل واستغلاله إلى آخر نقطة.
الدراما تحتمل الانتظار والتوجّس والخوف على أبطالها من مصائر مجهولة، أما الكوميديا فلا تنتظر إلاّ الضحك، ولا شيء غير الضحك. ولأجل ذلك كله صُنع الضحك قصيرا، خفيفا، ومقتضبا، أما الدراما فيلزمها صبر كبير على كاتبها وممثلها ومخرجها، وحتى متابعها.
والمصريون بارعون في الإضحاك، كما هم بارعون في التباكي واستدرار الدموع. ويظهر ذلك واضحا في أغانيهم ومواويلهم، لكنهم يتقنون صناعة “مقتضى الحال”، ويسوّقون حسب السوق. إنها المهارة في مداراة ما يجب أن يكون.
خطوط متشابكة
ولّت الأزمنة التي كان يُعلن فيها عن الفيلم بأنه كوميدي أو تراجيدي، وتتشابك الخطوط الدرامية بين مضحك ومبك.
كان فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي وأمينة رزق وكريمة مختار، يخلطون بين الكوميدي والتراجيدي في عمل فني واحد، وكان الجمهور يستخدم المناديل لكفكفة دموع الحزن تارة، ومسح دموع الضحك تارة أخرى.
الآن ينسحب جمهور دراما المسلسلات نحو بيوتهم لمتابعة المسلسلات بكل صبر وتروٍ، ويتمسّك جمهور السينما بالأفلام لأجل الضحك ولا شيء غير الضحك.
كأن جمهور الدراما قد انقسم إلى نصفين: نصف للتوجّع والبكاء، ونصف للضحك والاستهزاء. وتباعد الفارق بين الاثنين أو بين الجيلين، على وجه الدقة والتخصيص.
متابعو المسلسلات قوم صبورون ويتحمّلون ويحنّون إلى أزمنة “الوسادة الخالية” و”إني راحل” و”ليالي الحصاد” و”آه يا زمن”، أما المهتمون بالأفلام فيستمرون بعد أفلام عادل إمام، في ملاحقة كوميديا أحمد حلمي، ومحمد سعد، وقد يتجاوزون الأسماء في سبيل البحث عمّن هو أكثر إضحاكا، ذلك أن الكوميديا سريعة النسيان وكثيرة التجدّد، على عكس الدراما التي تستدر الدموع منذ فريد شوقي، ومحمود ياسين، وصولا إلى أحمد السقا وهند صبري.
الجمهور العربي أصبح بدوره “ماكرا” ودقيق الاختيار والتمييز، بين فيلم مصري، ومسلسل من نفس المصدر، ذلك أنه لم يعد يتقبّل شريطا سينمائيا مصريا في منتهى الجدية والالتزام، ويستهتر بكل إنتاج جاء من أرض الكنانة ويدّعي الجدية، في مقولة مفادها إن العمل التمثيلي المصري لا يمكن إلاّ أن يكون كوميديا ومضحكا.
جيل الشباب لا يمتلك الجلد الكافي للمثول أمام شاشة التلفزيون كي يعرف ماذا سينجرّ عمّا حصل في الحلقة السابقة
“إخوتنا المصريون ليسوا جدّيين كما ينبغي لصناعة دراما سينمائية” هذا ما صرّح به أحد نقاد السينما في تونس. لكن هذا الحكم يظل جائرا في حق من أبدعوا “المومياء” لشادي عبدالسلام أو “السقا مات” لصلاح أبوسيف أو “حدوتة مصرية” ليوسف شاهين.
المسلسلات الكوميدية المصرية علّمتنا بدورها آداب الضحك وفنون الإضحاك على أيدي عباقرة يشهد لهم في الميدان من أمثال حسن حسني وعبدالمنعم مدبولي وإسعاد يونس، لكنها تراجعت فتجهّمت وتركت الدور للسينما في توزيع واضح للأدوار، فكأنما الشاشة الصغيرة للوجع والشاشة الكبيرة للانشراح والضحك.
المشكلة أن في عصرنا هذا، صارت المساحة الأكبر لطلب الضحك -وكيفما اتفق- أما المتبقي فللدراما التي صارت مضحكة ومثيرة للسخرية لأن ما يبكي في الأمس، صار يستفزّ الابتسامة اليوم، واختلط الحابل بالنابل.
السينما المصرية ذهبت بعيدا نحو الإضحاك حتى وإن لم تجده، كما أن المسلسلات ذهبت بعيدا نحو استدرار الدموع وتجييش العواطف فلم تجدها بدورها. إنها الدراما الحقيقية والمستحيلة.