تونس ترسل موسيقاها مع الريح.. هباء!

هذه المقالة، من وحي حادثة حصلت معي فعليا، حادثة فنية/ افتراضية جعلتني أهيب بخيالي مُحفّزا لواقع فني أفضل بتونس الطاقات الإبداعية المنسيّة.
ففي يومي الثاني عشر من الحجر الصحي الذاتي، فتحت الكمبيوتر، لأنطلق في العمل عن بعد مع جريدتي، كما هي عادتي الجديدة منذ أن ألزمت نفسي -إثر انتهاء فعاليات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته التاسعة بمصر، وعودتي إلى تونس- الانعزال عن العالم والناس، حتى تنتهي أيامي الـ14.
ففُوجئت بمقطوعة موسيقية تصلني من الملحن التونسي المُخضرم عبدالرحمن العيادي حمّلها على “الماسنجر” الخاص بي. وكتب: هذه معزوفة موسيقية عنوانها “مها” يعود تاريخ تلحينها إلى سنة 2000، هديتي لك… علّها تُرافقك”. ومن لباقته لم يقُل في “محنتك” أو بعبارة أكثر لطفا في “وحدتك”.
معزوفة من نحو ثماني دقائق، رافقتني، طوال الصباح، وأثناء الغداء، بل على امتداد يومي والذي يليه. رأيت عيون المها عبر المقطوعة الموسيقية وهي تركض في الصحاري، سمعت سليل الغزال وهو يُناديني للحاق به كي نشرب نخب الحياة من ينبوع ماء عذب كعذوبة المقطوعة وطراوتها، على نفسي صبيحتها.
لحّن العيادي للعديد من الأصوات التونسية كأمينة فاخت والراحل حسن الدهماني ورحاب الصغير وآخرين.. وهو الذي ترأس قيادة الفرقة الوطنية للموسيقى لمدة تضاهي العقدين
فشُكرا، مايسترو على الحركة التي أسعدتني حدّ البكاء. شُكرا مُضاعفا أيها الفنان الذي لم ألتق به يوما، ولم أحادثه يوما، وكل ما يجمعني به صداقة افتراضية عبر الفيسبوك. بل إن الأدهى والأمر أنني أخطأت في حقّه ذات صائفة 2016، حين قدّم الفنان الشهير سهرة فنية ضمن فعاليات مهرجان قرطاج الصيفي الـ52، احتفاء بذكرى الميلاد الخمسين للفنانة التونسية/ العربية الراحلة ذكرى التي لحّن لها العيادي أروع أغاني بداياتها الفنية على غرار: “إلى حضن أمي يحن فؤادي”، و”ودّعت روحي معاه”، و”موش كل حب”.. وأكثر من 20 أغنية أخرى.
ليلتها، شاهدت العرض، وامتعضت قليلا، وأثناء خروجي من مسرح قرطاج الأثري استوقفتني إحدى المحطات التلفزيونية الخاصة (نسيت وحقّ السماء، لعن الله الكبر)، لتسألني عن رأيي في الحفل، فقلت: أنانية عبدالرحمن العيادي طغت على السهرة، فذكرى ليست أغاني العيادي فقط، ذكرى التونسية التي أصبحت في ما بعد عربية هي أيضا صلاح الشرنوبي وسعود الفيصل وطارق العريان وعلي الكيلاني وغيرهم.
وبعد يومين اتصلت بي الصديقة الراحلة منيرة حمدي التي شاركت بدورها في حفل التكريم، لتلومني بلطف -كعهدها دائما، رحمها الله- عمّا قلته في حق عبدالرحمن. وقالت مُنصفة: عزيزي صابر، إنه لم يُقصّر في تقديم أغاني ذكرى بألحان غيره، لكن ربما المسيرة الأكبر للمرحومة كانت مع العيادي.
فقلت باقتضاب: موضوع قابل للنقاش. تجنبا للدخول في جدال مُطوّل قد يُغضب صديقتي وصديقة العائلة الفنانة/ الراحلة منيرة.
تلك هي علاقتي بالمايسترو عبدالرحمن العيادي الذي لم يلُمني، أو حتى يُجادلني عمّا صدر عن لساني السليط تُجاهه، بل طلب صداقتي الافتراضية، إثر العرض، وقبلتها بكل حب.
ومن يومها وهو يُتابع سواء كتاباتي الصحافية بجريدة “العرب” أو تدويناتي الفايسبوكية، باللايكات أو التعليقات. إلى أن كانت يومياتي الأخيرة، ومقطوعته الأثيرة. فشُكرا مايسترو على سماحتك وهديتك. والحِلْمُ من الفنان لا يُستغرب؟!
كان لا بدّ من هذه التوطئة المطوّلة، كي نفهم مدى حجم الضيم الذي يعيشه موسيقيو تونس. فعبدالرحمن العيادي شكّل مع الراحلين، الشاعر حسونة قسومة والمطربة ذكرى، مثلثا متفرّدا جاد بأسخى ما لديه وشنّف الآذان بأغان رائعة حفظتها الذاكرة الموسيقية والشعبية بتونس والمغرب العربي كافة.
كما لحّن العيادي للعديد من الأصوات التونسية كأمينة فاخت والراحل حسن الدهماني ورحاب الصغير وآخرين.. وهو الذي ترأس قيادة الفرقة الوطنية للموسيقى لمدة تضاهي العقدين.
مُعضلة القائمين على الشأن الثقافي وأيضا السياحي في تونس ظلت وستظل مُرتهنة بانعدام الخيال لدى بعضهم، كي لا نقول غالبيتهم
عبدالرحمن العيادي مثل مع مجموعة من الملحنين الأفذاذ على غرار الناصر صمود وسمير العقربي وعبدالكريم صحابو ومحمد صالح الحركاتي في سنوات الثمانينات وتسعينات القرن الماضي “ربيع الأغنية التونسية” التي عرفت انتعاشة موسيقية غير مسبوقة كلمة ولحنا.
إلاّ أن كل هذه الأسماء السابق ذكرها، أو جلها، تقريبا، انسحبت من المشهد الموسيقي التونسي في ظل كساد سوق الأغنية ببلد لم يتمرّس بعد بآليات تسويق الموسيقى التونسية محليا، فما بالك عربيا.
فالعيادي مثلا، ومن جيله الكثيرون، في رصيده من المقطوعات الموسيقية “الصامتة” (هكذا يصنّف أهل الفن المعزوفات الموسيقية غير المُغناة في تونس، وما هي بصامتة، حقيقة بل ثرثارة من حيث المقامات ومُتحركة نوتا وصولفاجا كحال مقطوعته المُهداة إليّ “المها”) ما يزيد عن عشر معزوفات احتلت مكانا قصيّا في درج النسيان بمكتبه.
أجل، هكذا أبلغني، في اتصال هاتفيّ. فما ضرّ لو اقتنت بعض شركات الاتصالات بتونس، وما أكثرها، هذه المعزوفات، وبثّتها لعملائها في ثواني انتظارهم لاستقبال مُكالمة هاتفية ما؟ ما ضرّ لو مُرّرت هكذا مقطوعات موسيقية أصيلة الهوية والنوت الموسيقية المخصوصة لتونس في بهو النزل، فيسمعها التونسي والسائح على السواء على امتداد أيام إقامته؟ أليس في ذلك تسويق سلس للقوة الناعمة للمجتمعات والحضارات؟
عبدالرحمن العيادي وغيره كثيرون مُستعدون لذلك وأكثر، ودون مُقابل حتى، كما أبلغني بنفسه. لكن مُعضلة القائمين على الشأن الثقافي وأيضا السياحي في تونس ظلت وستظل مُرتهنة بانعدام الخيال لدى بعضهم، كي لا نقول غالبيتهم؟! فمتى تُعدم مقولة علي الدوعاجي الأثيرة “عاش يتمنى في عنبة، مات جابولو عنقود؟”. لننتظر.. فربما تعلّمنا الجائحة التي ضربت العالم في مقتل أن “الفن أساس العمران”.