توسع الاحتجاجات ينذر بشتاء ساخن في تونس

تواجه السلطات التونسية موجة جديدة من الاحتجاجات غير المسبوقة خاصة أنها استهدفت غلق بعض مواقع الإنتاج، ما يفاقم من متاعب الاقتصاد التونسي المُنهك أصلا بتداعيات جائحة كورونا والتداين، كما يضع السلطات أمام اختبار جدي للتعامل مع هذه الاضطرابات التي اتسعت رقعتها بوتيرة سريعة.
تونس- شهدت تونس الأربعاء اندلاع المزيد من التظاهرات والاحتجاجات في عدد من الولايات (المحافظات) للمطالبة بالتنمية والتشغيل وغيرها من المطالب وسط محاولات من الحكومة لتطويقها بإجراءات تبدو محدودة وفقا لمتابعين، ما قد يدفع نحو تذكية هذه الاحتجاجات.
وبعد ساعات من إعلان رئيس الحكومة هشام المشيشي عن قرارات لفائدة ولاية قفصة (جنوب) خرج شباب للاحتجاج في هذه الولاية التي يتعطل فيها إنتاج الفوسفات أصلا، قبل أن تنضم ولاية باجة (شمال) إلى الولايات الغاضبة، حيث دخلت الولاية في إضراب عام الأربعاء.
وفي مواجهة الغضب الشعبي المتنامي جراء ارتفاع نسب البطالة والتهميش المتزايد، أقرت الحكومة جملة من القرارات الطارئة لعدد من الولايات.
وأعلنت رئاسة الحكومة في ليلة الثلاثاء-الأربعاء أن مجلسا وزاريا مضيقا أقر جملة من الإجراءات لدفع التنمية بقفصة شملت بالخصوص قطاعات الفلاحة والصحة والنقل وخلق مواطن الشغل.
وأكد بلاغ صادر عن رئاسة الحكومة نشرته على صفحتها بموقع فيسبوك، أن رئيس الحكومة هشام المشيشي قرر “تكليف فريق حكومي للتحول مطلع الأسبوع القادم إلى ولاية قفصة قصد تذليل كافة الصعوبات والعراقيل أمام تنفيذ القرارات المتخذة خلال المجلس الوزاري المضيق ووضع تصوّر تنموي جديد بالتشارك مع ممثلي الجهة بما يتلاءم مع خصوصيّة جهة قفصة الطبيعية والديموغرافية”.
ومع اتساع رقعة الاحتجاجات الاجتماعية والإضرابات التي طالت قطاعات شتى، تزداد مهمة حكومة المشيشي صعوبة، حيث أعلنت عدة نقابات وتنسيقيات عمالية جهوية شن سلسلة من الإضرابات تنديدا بالأوضاع الاجتماعية والمهنية المزرية، وسياسة “المماطلة” التي تنتهجها الحكومة.
ويرى مراقبون أن قرارات الحكومة تعد مجرد مسكنات تعكس عجزها، ولن لن تجتثّ الداء من جذوره.
ويرى المحلل السياسي باسل ترجمان أن “الإجراءات تأتي كردّ فعل لا كفعل بعدما ارتكبته الحكومة من أخطاء في الكامور خاصة وأنها قدمت رسالة مفادها أن كل من يحتج يمكن أن يحقق مطالبه، ونعلم أن كل المطالب ومنذ 10 سنوات قامت عليها الثورة كانت على أساس الشغل والتنمية، وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية أصبحت واضحة، وكل الأطراف ترى في ما حققه شباب الكامور فرصة لتحقيق المطالب التي تعمدت الحكومات المتعاقبة تجاهلها وحولت تونس إلى أكبر مجال من الفساد السياسي”.
وأضاف ترجمان في تصريح لـ”العرب”، “اليوم هناك مطالب كبيرة والحكومة لا تملك القدرة ولا الإمكانية لتحقيقها، والأهم أنها لا تملك رؤى وبرامج تنموية واستراتيجية لتحقيق ذلك، فتحاول إعطاء وعود لن تكون قادرة على الإيفاء بها، وهناك أطراف سياسية تسعى لتأميم الوضع على أمل أن تكون لها حصة في تسويات قادمة قد تصدر بعد 10 ديسمبر القادم”.
وتابع “هناك أطراف سياسية تسعى للتصعيد خلال الفترة القادمة لأن هناك من يرى في حكومة المشيشي عبئا عليه ويريد أن تبلغ وضعا مأزوما لتستغل زيارات قادمة إلى تونس لتقدم نفسها منقذا للبلاد، وحكومة المشيشي قد يرفع عنها الثلاثي المتحالف الغطاء السياسي لفشلها وعجزها عن تجاوز الأزمات”.
وترزح تونس تحت وطأة أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية لم تعرفها منذ الاستقلال وعمقت آثارها جائحة كورونا.
ولئن نجحت الحكومة في تجاوز عقبة اعتصام الكامور في ولاية تطاوين بالاستجابة إلى مطالب المحتجين، فإنها فتحت دون وعي منها الباب على مصراعيه لتنسيقيات عمالية أخرى لانتزاع مطالبها عبر التهديد بغلق حقول الإنتاج، ما أفضى إلى حلّ أزمة بتعميق أخرى.
وكان المشيشي أشاد بالتوصل إلى حل ينهي أزمة الكامور، بعيدا عن المعالجات الأمنية، لافتا إلى أن الحل نفسه القائم على المفاوضات الاجتماعية سيتم اعتماده في حل مشاكل باقي المناطق المطالبة بالتنمية والتشغيل.
واتسع نطاق الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية في أنحاء البلاد، مثل ولايات صفاقس وقابس والكاف وتطاوين والقيروان وقفصة وباجة والقصرين، في ظل تعقد الوضع الاقتصادي الذي شهد انكماشا بنسبة 10 في المئة حتى سبتمبر الماضي متأثرا بوباء كورونا.
ويتواصل في ولاية قابس (جنوب)، اعتصام شباب المنطقة المطالبين بالتنمية والتشغيل ما أحدث شللا تاما في عمل “المجمع الكيميائي” وتوقف الإنتاج، مما أثر سلبا على إنتاج الغاز، وتسبب في اضطراب على مستوى التوزيع في ولايات الجنوب الشرقي.
وأعلن الاتحاد الجهوي للشغل بالقيروان (وسط) تنفيذ إضراب عام مع بداية الشهر القادم للتنديد بتواصل سياسة التهميش وغياب التنمية العادلة.
ودخلت ولاية باجة الأربعاء في إضراب عام للمطالبة بالتنمية وإصلاحات في القطاع الصحي، وأغلقت المحلات التجارية ومؤسسات القطاع العام والخاص أبوابها، كما تعطلت حركة القطارات المؤدية إلى الولاية.
ويستدعي الوضع التونسي المأزوم التساؤل عن الحلول التي تمتلكها الدولة خاصة وأن التحذيرات تفاقمت من تفككها على وقع هذه التحركات. وأفاد المحلل السياسي عبدالعزيز القطي أن “المواطن اليوم بصدد التعبير عما يعيشه من ضيم ومن غياب الدولة والسلطة لخدمة وتقديم ما ينتظره من شغل وحرية وكرامة وطنية”.
وأضاف القطي في تصريح لـ”العرب”، “هناك تحلل وتهاو وشعبوية مقيتة وأعمدة الدولة تنهار، والدليل على ذلك ما يشهده القضاء التونسي من تجاذبات وصراعات، وغياب التنمية وفقدان هيبة الدولة من خلال الاتهامات والفساد المستشري في المؤسسات، وما كشفه تقرير محكمة المحاسبات الذي لم يستثن من هم في واجهة الحكم”.
وتابع “هناك عدم قدرة على التفاوض من قبل الدولة ما جعل الثقة منعدمة مع المواطن، وعندما تظهر الدولة ضعيفة وغير قادرة على تحقيق الوعود يظهر استقواء المواطن (..) نعيش أزمة سياسية ومالية واقتصادية خانقة، وهناك غليان في الشارع ستكون له تداعيات خطيرة، فضلا عن رداءة في البرلمان وأزمة المالية العمومية”.
وأشار المحلل السياسي إلى أنه لا يمكن المواصلة بهذه الطريقة، داعيا إلى “ضرورة تنظيم مؤتمر وطني وصياغة مشروع جديد تقدم فيه مختلف الأطراف رؤيتها من المنظمات الوطنية والأحزاب ومكونات المجتمع المدني، علاوة عن تغيير النظام السياسي والقانون الانتخابي القائم”.
وتحذر أوساط تونسية من تداعيات هذه الاضطرابات المتنامية على تماسك الدولة خاصة أنها باتت تعرقل الإنتاج في العديد من المناطق كملاذ لإخضاع السلطات.
وبعد أن امتدت الأيادي لمضخّات النفط جنوب البلاد (الكامور) كوسيلة ضغط على السلطات، انتقلت العدوى إلى باقي الجهات وانتشرت كالنار في الهشيم، فتعددت الاحتجاجات والمطالب على غرار الشغل والتنمية.
وفي خضم هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات تجد السلطات التونسية نفسها ممزقة بين خيارين أحلاهما مر؛ فإما أن تلجأ إلى فض هذه الاحتجاجات والاعتصامات بالقوة لفرض “هيبتها” وإما أن تذهب في الحوار مع المحتجين وهو ما قد يجعل ولايات أخرى تستنسخ نفس التجارب أملا في تحقيق مطالب مؤجلة.
وأفاد الجامعي والباحث السياسي محمد الصحبي الخلفاوي في تصريح لـ”العرب”، “أن الدولة في خطر منذ تسجيل العجز الكبير في الموازنات المالية، ومنذ أن أصبحت غير قادرة على إنفاذ قراراتها وأصبحت تتفاوض مع التنسيقيات الجهوية”.
قرارات الحكومة تعد مجرد مسكنات تعكس عجزها، ولن لن تجتثّ الداء من جذوره
وأضاف الخلفاوي “الثقة أصبحت منعدمة في الدولة باعتبارها القوة الأساسية في التغيير، وما نعيشه الآن هو تراكمات لـ10 سنوات ماضية، حيث أصبح المشهد بعد 2011 ضعيفا من حيث إدارة الأزمات إما لفكرة قلة الخبرة أو لفكرة أيديولوجية الإسلاميين”.
وأشار إلى “أن المؤشرات ليست جديدة والدولة أضاعت الكثير من الوقت للبحث عن حلول مناسبة، والواقع في الجهات دعا إليه الرئيس قيس سعيد بطريقة غير مباشرة عندما قال ‘كل جهة تأخذ بزمام الأمور حسب خصوصياتها’ وهذا ما يمارسه المحتجون الآن”.
وبرأي الخلفاوي، أصبح المواطن لا يثق في الوساطات ولا الجهات التي ترعاها مع السلطات للتفاوض كالهياكل والنقابات، وسقطت هذه الأجسام على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في البلاد، الذي كان مفاوضا أساسيا على حقوق العمال والشغل.