تنازل الأسرة عن مقاضاة المتحرش يفاقم الانتهاكات الجسدية

أصبح تنازل كثيرين من أفراد الأسر في مصر عن حق ابنتهم، ضحية التحرش، انتكاسة للخطوات الشجاعة التي سلكتها فتيات لكسر ثقافة الصمت على الانتهاكات الجسدية، لاسيما وأنه غالبا ما يكون قرار العائلة بالتصالح مع المتهم لا يتوافق مع رغبة الضحية، بل يأتي التنازل رغما عنها، ولا تملك سوى الاستجابة لإرضاء أسرتها.
القاهرة – بدأت تتعالى الأصوات الحقوقية والنسائية في مصر للمطالبة بوضع حد للثغرات القانونية التي تقود إلى ارتفاع معدلات التحرش الجنسي في المجتمع، خاصة ما يرتبط بتنازل أسرة الضحية عن مقاضاة المتهم، بعد تدخل وسطاء ومعارف، أو بذريعة تجنّب الفضيحة، وأحيانا الخوف من انتقام عائلة المتحرش.
ويبرهن هؤلاء على موقفهم بأن الفتاتين اللتين تعرضتا للتحرش الجماعي في مدينة المنصورة (شمال شرق القاهرة) ليلة رأس السنة الميلادية، وأحدثت الواقعة صدمة مجتمعية، قررتا التنازل عن القضية بذريعة الخوف على حياتهما وإمكانية تعرضهما للخطر أو الانتقام منهما في المستقبل إذا حصل الجناة على أحكام بالسجن.
وبحكم أن العادات والتقاليد والأعراف تلعب دورا مهما في حياة العديد من الأسر المصرية، فإن النزاع العائلي ينتهي أحيانا بعد تدخل وسطاء بعيدا عن سلطة القانون، وفي كل مرة تجد الفتاة نفسها أسيرة لقرارات أسرتها، وإن كانت هي الضحية، وتضطر إلى تنفيذ رغبات ولي الأمر، وتتنازل عن حقها ولو تعرضت لانتهاك جسدي فاحش.
وحذر حزب المحافظين في مصر، السبت، من انتشار ثقافة التصالح في قضايا التحرش الجنسي، لأن ذلك يقود إلى ارتفاع معدّلات الظاهرة، وقال إن “تنازل الضحية عن حقها، لا يلغي وجود حق للمجتمع عند المتحرش”، وهو نفس التحذير الذي أطلقه مفكرون وكتّاب وشخصيات عامة، عقب انتهاء بعض قضايا التحرش بالتصالح مع المتهمين.
وتتذكر آية (م)، وهي فتاة تعمل بهيئة التمريض في أحد المستشفيات الحكومية بمحافظة البحيرة (شمال القاهرة)، حينما تعرّضت للتحرش الجنسي على يد سائق، وتمسّكت بحقها في مقاضاته، لكن أجبرتها أسرتها على التنازل، بعدما تدخل بعض المعارف بشكل ودّي للتصالح، وانتهى الأمر بسحب الدعوى القضائية.
وقالت لـ”العرب”، إنها لن تنسى يوم دخل المتحرش وأسرته إلى منزلها لتقديم اعتذار إلى والدها، وبعد دقائق من اللقاء تحوّلت الجلسة إلى “تبادل نكات” وكأنّ شيئا لم يحدث، في حين كانت الضحية تجلس في غرفة مجاورة تسمع الضحكات وقلبها يتحسر، بعدما انكسرت وأُجبرت على مصافحة المتحرش.
وتنتمي آية، إلى عائلة يغلب عليها الطابع الريفي، غير أن شخصيتها تختلف عن كل أفراد أسرتها، فقد خرجت من بلدتها للالتحاق بكلية التمريض في إحدى جامعات دلتا مصر، وخلعت عن عقلها فكرة الارتكان للعُرف في أيّ جريمة، وعندما قررت مقاضاة المتحرش لم تبلغ عائلتها بتحرير محضر في قسم الشرطة، وعلم والدها بالأمر بعد تدخل وسطاء للصلح.
تدخّل الأسر لإرغام بناتها على التصالح مع المتحرش انعكاس واضح لخوف المجتمع من مواجهة عنف المتحرشين
واعتادت الفتاة صاحبة الـ24 عاما، أن تتابع قضايا النساء من ضحايا التحرش، وتراهن أكثر الشخصيات شجاعة في المجتمع، ومنذ وقت طويل قررت أن تواجه المتحرشين بالقانون وتحبسهم ليكونوا عبرة لغيرهم، لكنها ترى في تدخل الأسر لإرغام بناتهن على التصالح مع المتحرش انعكاسا واضحا لخوف المجتمع من مواجهة عنف المتحرشين.
وتكمن الأزمة في أن قانون الإجراءات الجنائية بمصر، يبيح التصالح في قضايا التحرش، وهي ثغرة يلجأ إليها الكثير من المتهمين للإفلات من العقوبة، والحصول على البراءة قبل المحاكمة، حيث يتقدّم محامي الجاني إلى النيابة المختصة بما يثبت تنازل المجني عليها أو ولي أمرها عن الدعوى الجنائية، وفي هذه الحالة يتم إخلاء سبيل المتهم.
ويقول حقوقيون، إنه لا بديل عن تطبيق النظام المعمول به في المملكة العربية السعودية، لحماية ضحايا التحرش الجنسي في مصر من تنازلات أسرهن عن حقوقهن بالتصالح مع المتهمين، حيث تعتبر الرياض التحرش من جرائم النظام العام، وتنازل المجني عليها، أو حتى عدم تقديم شكوى رسمية، لا يحول دون حق الجهات المختصة في اتخاذ ما تراه محققا للمصلحة العامة.
ويرى هؤلاء، أن استمرار تعامل الحكومة مع قضية التحرش على أنها شأن شخصي يتعلق بالضحية وحدها يرفع سقف التشاؤم باستمرار الظاهرة كأمر واقع، لأن المجتمع اعتاد تحميل الفتاة الجزء الأكبر من المسؤولية بذريعة ملابسها، كما أن الأسرة نفسها تعتبر مقاضاة المتهم مدعاة للفضيحة أو تقبل التصالح معه.
ولا تنس آية، أنها عندما أبلغت والدها برفضها التصالح مع الشاب الذي تحرش بها، هددها بمنعها من الذهاب إلى العمل وحرمانها من الخروج من المنزل، حتى اضطرت إلى التنازل عن الدعوى، خشية أن يعاملها ولي أمرها كمتمردة، أو أنها خرجت عن طوعه، ما يعرضها مستقبلا لمشكلات أسرية جسيمة.
وأضحى حصول فتاة على حكم قضائي لصالحها بحبس المتهم بالتحرش من الأحداث النادرة، ما يعكس غياب ثقافة الانتقام من المتحرشين بالقانون عند أغلب الأسر، كما أن العائلات نفسها لا تشجع النساء على ملاحقة المتهمين بالاعتداء عليهن، بل إن أغلب من حصلن على أحكام قضائية ضد متحرشين تبين أنهن قدن المعركة دون غطاء ودعم أسري.
وأكد عادل السيد، الباحث والمحاضر في العلاقات الأسرية، أن تعديل القانون بحيث يتم منع التصالح في جرائم التحرش ضرورة حتمية، بحيث لا تجد أسرة الفتاة مخرجا ولا بديلا عن مساندتها في أخذ حقها بقوة القانون، وينتهي مسلسل الضغط الأسري على ضحايا الانتهاك الجسدي للتنازل عن مقاضاة المتهمين.
وأوضح لـ”العرب”، أن القاضي والنيابة المختصة التي تنظر في قضية التحرش، عادة لا يبحثان في أسباب تنازل الفتاة عن مقاضاة المتهم، ولا يدركان حجم الضغوط الأسرية أو التهديدات التي تعرضت لها، حتى تقدم على هذه الخطوة، وبالتالي لا بديل عن وجود حصانة حكومية وقانونية لكل فتاة تريد أخذ حقها من المتحرش.
وتبرر بعض الآراء، إقدام الفتاة أو أسرتها على وقف إجراء مقاضاة المتحرش، بإمكانية تعرض الابنة للخطر مستقبلا، إما على يد المتهم بعد انقضاء فترة العقوبة وإما عائلته، في ظل عدم توفير الحماية الكاملة لأفراد أسرة الضحية.
ورد الباحث عادل السيد، على تلك المخاوف، بحتمية تغيير الحكومة ثقافة التعامل مع وقائع التحرش الجنسي، بحيث يكون هناك حق للمجتمع والدولة عند المتحرشين حتى لو تنازلت الضحية أو أسرتها، وتظهر الفتاة أمام الجاني بأنها تنازلت عن حقها الخاص، ومن ثم تعيش في مأمن عن الأذى، أما الدولة فلن يستطيع المتحرش الانتقام منها.