تطور المكياج يواكب التغييرات الاجتماعية عبر التاريخ

الحصول على مظهر طبيعي وحيوي ليس بالأمر الهين، لذلك تحاول المرأة على مدى مراحل حياتها المختلفة وكيفما تبدلت أدوارها الاجتماعية وتراكمت حصيلة إنجازاتها الثقافية والعلمية، أن تحصل على مظهر مقبول بأقل تكلفة ممكنة مع مراعاة ألّا يتسبب ذلك في إهدار أوقاتها الثمينة.
يقول أوسكار وايلد "إن الجمال عجيبة العجائب، وقد يكون الجمال قشرة ظاهرية ولكن الظواهر هي كل شيء في الحياة.. ومن لا يحكمون في الظواهر هم السطحيون الذين لا يفهمون شيئاً عن لغز الحياة، فلغز الحياة هو ما نراه وليس ما لا نراه".
المكياج في العصر الراهن
وحاولت الدراسات الحديثة التطرق إلى حقيقة ما يشاع عن الأوقات الطويلة التي تقضيها بعض السيدات في العناية بالبشرة واقتناء أدوات التجميل ومواكبة كل ما هو جديد ومبتكر في هذا المجال، فقط ليبدَوْن بصورة مميزة في المرآة بالدرجة الأولى.
حسب دراسة بريطانية حديثة، تقضي النساء في المتوسط قرابة 29 دقيقة يومياً لوضع المكياج ليبدون بمظهر حسن من وجهة نظرهن، في حين أن ثلثي السيدات يحرصن على التجمّل قبل الخروج من المنزل على مدى دورة حياة كاملة، كما تقضي النساء في المتوسط قرابة 136 يوماً (أكثر من 3 آلاف ساعة) في الاستعداد للخروج وقضاء ليلة خارج المنزل.
مستحضرات التجميل تعمل على تغيير المفاهيم الاجتماعية وقد تخلق عنصر منافسة بين السيدات فتجعل بعضهن في وضعية هيمنة على الأخريات
وتؤكد نائبة مستشار الأبحاث في جامعة برمنغهام الدولية والتي تعمل في قضايا الفلسفة الأخلاقية والفلسفة النسوية، د. هيذر ويدوس، أن وضع المكياج أصبح أمراً روتينياً لأغلب السيدات سواء أكان للعمل أو من أجل الخروج لقضاء سهرة أو مناسبة اجتماعية أو حتى للتسوق، حيث أصبح التجميل جزءا من شخصية المرأة إلى درجة أن عدم وضع مساحيق التجميل من شأنه أن يكون مناسبة مهمة للترويج لعمل خيري يعود نفعه على المجتمع، وهذا ما حدث تماماً في العام 2015 حينما نشرت أعداد كبيرة من السيدات صورهن على مواقع التواصل الاجتماعي دون وضع أي مساحيق تجميل، فيما أطلق عليه حينها اسم حملة “سيلفي الوجه العاري”، والذي جمعن من خلاله مبلغا ماليا اقترب من 8 ملايين جنيه استرليني لصالح مستشفيات
ومراكز أبحاث السرطان في بريطانيا.على أن تطبيق المكياج على الوجه بصورة مفرطة قد يكون له تأثير معاكس، حيث توصلت دراسة حديثة أجريت في أواخر عام 2018 -وبصرف النظر عن جنس المشاركين وخلفياتهم العرقية- إلى أن استخدام مساحيق التجميل بإفراط، خاصة في سهرات المساء، ينعكس سلباً على تصورات الناس وتقييمهم الاجتماعي للمرأة ومدى ثقتهم في قدرتها على القيادة.
كما أن استخدام مساحيق التجميل في بعض المهن حتى وإن كان بصورة بسيطة ومعقولة قد يقلل من مكانة المرأة من وجهة نظر بعض الأشخاص وربما يعتبرونها تافهة وغير ذكية ولا يجب أن تؤخذ أقوالها على محمل الجد! وأشارت الدراسة التي أشرف عليها باحثون في قسم علم النفس في كلية العلوم الاجتماعية والصحة في جامعة أبيرتاي دوندي البريطانية، إلى أن مستحضرات التجميل تعمل على تغيير المفاهيم الاجتماعية عموماً وقد تخلق عنصر منافسة بين السيدات أنفسهن فتجعل بعضهن في وضعية هيمنة على الأخريات، في الوقت الذي تمثل فيه عنصر جذب للرجال.
أدلة تاريخية
في الماضي البعيد، كان وضع مساحيق التجميل حكراً على ممثلات وممثلي المسرح إضافة إلى أنه اكتسب سمعة غير جيدة عندما اعتبره البعض أمرا غير لائق، حيث كان ينظر إلى السيدة التي تضع المكياج بطريقة فجة أو مبالغ فيها نظرة فيها قلّة احترام. وكان الرجال في روما كحال الكثير من رجال العصر الحديث قد وجدوا في مستحضرات التجميل وسيلة للتلاعب والخداع، وأن المرأة التي تستخدم العطور هي مجرد ماجنة تحاول من خلالها إخفاء رائحة الخمر والرجال.
بالرغم من ذلك، فإن سرديات التاريخ البعيد جداً تؤكد أن مواطن الحضارات الأولى التي وضعت اللبنات الأساس في جدار التقدم البشري، هي السبّاقة في الترويج لمستحضرات التجميل بجميع أنواعها؛ ويعتقد أن النساء في حضارة سومر (حضارة قديمة في جنوب العراق) هن أول من بدأن في تصنيع واستخدام مستحضر تجميل من صنع الإنسان في العالم، حيث استخدمن مسحوق الأحجار الكريمة لتزيين وجوههن خاصة الشفتين وحول العينين، وكانت امرأة من بابل أول صانعة للعطور في العالم القديم (حسب ما جاء في الألواح المسمارية).
وسجل أول دليل على ظهور استخدام الزيت المقدس (زيت الزيتون وزيت الخروع) في مصر القديمة حيث شاع استخدام مستحضرات التجميل بصور متعددة باستثناء الفئة الدنيا من المواطنين والعبيد، وكان رجال ونساء مصر القديمة يرسمون حول عيونهم بأقلام الكحل، اعتقاداً منهم أنهم يبعدون قوى الشر عنهم، ثم في فترات تاريخية لاحقة بدأ الصينيون في رسم أظافرهم بألوان مستخرجة من مصادر طبيعية.
هكذا تواردت الاستخدامات المتعدد لمستحضرات التجميل والعلاجات والمواد الطبيعية للبشرة والشعر، واستخدام الصبغات للأظافر، وأوراق الشجر ومستخلصات النباتات والزيوت ومسحوق الأرز لطلاء البشرة وتنظيف الأسنان، ثم الأزهار للعطور ومياه الاستحمام وغيرها الكثير، حتى تطورت مكوناتها وأدواتها واستخداماتها فوصلت إلى ما هي عليه اليوم.
هذا الأمر يؤكد أن الطبيعة البشرية تواقة إلى الكمال في المظهر، وإلى الرغبة في التعبير المميز عن الهوية والمرجع الثقافي والاجتماعي، كما أن مستحضرات التجميل أسهمت طوال تاريخ من آلاف السنين في تغيير الطريقة التي نرى بها أنفسنا والآخرين، وفي حمايتنا في أوقات الشدّة النفسية والمرض إضافة إلى تمكيننا من التعبير عن معتقداتنا واتجاهاتنا.
