يبقى الحال على ما هو عليه

لن يكون الموضوع مختلفا هذه المرة أيضا، فقدنا القدرة على الكتابة في أي شأن آخر طالما أن السيد كوفيد19- مازال مرابطا في الأجواء بملامحه الخضراء الدبقة يتربص بحياتنا، كل الطرق هذه الأيام تؤدي إلى الفايروس وليس إلى روما بالطبع؛ حيث يمارس هذا الكائن المجهري البغيض سلطته المطلقة على الأرواح الجميلة.
وسط عاصفة القلق هذه التي قوضت أساسات تفكيرنا المنطقي، أصبح من العسير الالتزام بخط سير يومي واحد من دون إحداث التفافات، انتكاسات أو مراوغات لكسر حدة طريق الآلام هذا وتعطيل مساره الحتمي.
معظمنا يضع فقرات برنامجه اليومي حالما يستيقظ من النوم ويستعيد شيئا من وعيه، خارج حدود كابوس الليل الذي يقول بأن “يبقى الحال على ما هو عليه” رغم جرعات الأمل الذاتية والمفتعلة، التي نحاول بها تسكين مخاوفنا في ظلام الليل لنحصل على إغفاءة مريحة تجدد طاقتنا وهمتنا لمواجهة أخبار الصباح.
تسير ظلال التفاؤل والتشاؤم بأكتاف متقاربة على الطريق ذاته لا تفصلهما سوى مسافة قصيرة يصعب تحديدها، وما دمنا نسير ملزمين في الطريق نفسه يتوجب علينا الاختيار، ففي هذا الظلام لا بد من ضوء للاهتداء إلى الطريق أيا كان لونه رغم أن الخيار هذه الأيام لا يتعدى الضوء الأخضر أو الأحمر؛ هكذا تظهر أرقام ضحايا كورونا والناجين منها في خرائط نشرات الأخبار.. كلما ازداد منسوب الأخضر استرخت عضلات وجوهنا وكلما تفوق الأحمر اشتعلت صافرات الإنذار في أرواحنا.
يمرّ هذا النوع من العواجل الإخبارية على يوميات بعض الناس كما تمر نسمات هواء مشاكسة على جبين مزارع مغمور في سواقي حقله، يزرع البطيخ والطماطم والكروم ولا يعبأ بالعالم الخارجي شرط ألا يحدث مكروه لمحاصيل أرضه، بينما لا يحدث هذا مع الغالبية العظمى الذين تركوا حقول يومياتهم وحبسوا أرواحهم في زوايا المنزل لاستقصاء مزيد من الأخبار، تحليلات المتخصصين، تكهنات الدجالين وبائعي الأوهام، على أمل الحصول على نتفة صبر وسط محيط متلاطم من خيبات الأمل.

تحدث هذه الأمور وغيرها في مختلف بقاع الأرض المبتلية هذه الأيام بالزائر المجهول ثقيل الظل، لكن الأمر لن يستمر طويلا فالملل بدأ يتسرب إلى النفوس؛ الملل من تكرار البرنامج اليومي ومن ثقل العمل الروتيني الذي يضع لبنات العزيمة والتحدي واحدة فوق الأخرى بقياسات محسوبة، خوفا من انهيار البناء دفعة واحدة في لحظة ضعف ولا بد أن يأتي اليوم الذي سينهار فيه كل شيء؛ البناء والتحدي والصبر والأمل أيضا، سيأتي هذا اليوم متأخرا قليلا.. ربما قبل فوات الأوان أو بعد فواته لا أحد يدري!
مثل طفل مشاكس، أصابتنا دهشة الاكتشاف منذ بدء أيام الحظر الأولى أيام عزلتنا التي أخذت تتمدد أكثر من اللازم، في أول الأمر كنا نطلق صرخات الدهشة الممزوجة بضحكات مكبوتة مع كل فكرة جديدة مرافقة ليومياتنا المستجدة؛ وجبات الطعام الفاخرة التي بدأت تخرج من مطابخ الرجال، قطع النقود القليلة التي حصدناها من جولات سريعة من التجوال في معاطفنا القديمة وخزانات ملابسنا المهملة، البراعم الخضراء التي تفتحت في حدائقنا بعد أيام من العمل الشاق في تهيئة التربة المهملة وزرعها بالبذور، رقصات الزومبا ببيجاماتنا المنزلية ونحن في كامل فوضانا، تصفيقنا في الشرفات لتحية الكوادر الطبية التي تضحي من أجلنا وعبراتنا التي سكبناها على ضحايا المدن البعيدة قبل أن يطالنا الوباء ونصبح ضحاياه المحتملين الذين ستسكب بحقهم عبرات لسكان مدن أخرى بعيدة. كل هذا مرّت عليه أيام وربما أسابيع، والحال هو الحال، فكم يا ترى سيبقى الحال على ما هو عليه، وكم ستدوم دهشتنا ومن سيصمد إلى النهاية وكيف سيكون شكل الانهيار يا ترى؟