تصنيفُ القضاء هجرَ الرجل عنفا معنويّا يحرر النساء من سجن الزوجية

وضع القضاء المصري حدا لظاهرة هجر الأزواج للزوجات وتركهن معلقات، لا مطلقات ولا متزوجات، من خلال تصنيف هروب الرجل من بيت الزوجية لشهور عنفا معنويا يتطلب تطليق الزوجة مع احتفاظها بكامل حقوقها، تعويضا لها على إذلالها وكسر مشاعرها وتحميلها مسؤولية الأسرة، مقابل أن يعيش الرجل في هدوء.
أصبح بإمكان المرأة في مصر التي هجرها زوجها أن تلجأ إلى القضاء وتستفيد من القاعدة الفقه قضائية التي أقرتها محكمة الأسرة، وانتصرت فيها للزوجات اللاتي يعانين هروب أزواجهن لفترة طويلة، تعيش فيها النساء حالة اجتماعية ونفسية واقتصادية سيئة، بعدما يصل بهن الحال إلى أن يكن متزوجات وهن مطلقات مع وقف التنفيذ.
وجاء إقرار القاعدة الفقه قضائية أثناء الحكم بتطليق امرأة قبل أيام، اشتكت من هجر زوجها لها لثلاث سنوات متواصلة دون أن تعرف عنه شيئا، فلا هي تستطيع الارتباط برجل آخر، ولا تعيش حرة وتتصرف كيفما تشاء، لأنها مرتبطة باسم زوجها، حتى قررت المحكمة تطليقها وإلزام طليقها بتسليمها حقوقها كاملة.
وصحيح أن النساء اللاتي يعانين مرارة هجر الأزواج لهن يمكنهن الاستفادة من منطوق الحكم مستقبلا، بعدما أصبحت لديهن مظلة قضائية تسهل عليهن التحرر من سجن الزوجية دون خسائر، لكن ذلك يرتبط بمدى شجاعة المرأة في حمل لقب مطلقة، أو في أن يعرف أقاربها والبيئة التي تعيش فيها أنها كانت تعيش دون زوج.
ويصنف الهجر الزوجي على أنه أحد أشكال التفكك الأسري المستتر، فمن النادر أن تتحدث عنه الزوجة إلا لدائرة مقربة، لكنه ما زال محصورا في المدن التي يقل فيها الترابط الاجتماعي، بعكس المناطق الريفية والشعبية التي تتمسك بالعادات والتقاليد والأعراف وتحتفظ بالترابط العائلي والتربية الأسرية الصارمة التي توصم الزوج الهارب بأنه منزوع الرجولة والشهامة.
وتتضاعف الأعباء النفسية على الزوجة من جانب الأهل عندما يتم تحميلها مسؤولية هجر الزوج دون أن يعرفوا كواليس ما يدور في بيت الزوجية، والمعاناة التي تعيشها قبل وبعد هروب الرجل، لذلك تلجأ الكثير من السيدات إلى الإخفاء وتحمل التبعات، والصبر على أن يعشن ويحملن لقب متزوجات، وهن مطلقات سرا.
وتكشف مطالعة محتوى الفتاوى المنشورة على المواقع الإلكترونية التي تحمل صبغة إسلامية في مصر، حجم تحريض الرجال على هجر بيت الزوجية بدعوى تأديب المرأة وإذلالها وكسر هيبتها وكرامتها، إذا كانت عاصية أو متمردة أو تسعى للتدخل في قرارات الأسرة.
الهجر الزوجي يصنف على أنه أحد أشكال التفكك الأسري المستتر، فمن النادر أن تتحدث عنه الزوجة إلا لدائرة مقربة
ورصدت “العرب” مجموعة من هذه الفتاوى تجيز شرعا هجر الزوجة لشهور، سواء بالبقاء خارج المنزل، أو عبر مقاطعتها في فراش الزوجية وعدم منحها حقوقها الشرعية، وادعى بعض الشيوخ أن النبي محمد (ص) لجأ إلى هجر إحدى زوجاته لأنها أفشت سرا، ما يعني أن التدخل لمعالجة الظاهرة يصطدم بتشريع يعطي للرجل مئات الأعذار.
وتكمن معضلة لجوء الزوجة إلى القضاء لطلب الطلاق بدافع الهجر، في أنها لا تستطيع إثبات ذلك سوى من خلال شهود تطمئن لهم المحكمة، ويمكن بسهولة أن ينفي الزوج عن نفسه التهمة حتى تخسر زوجته المعركة، ويتجنب توريط نفسه في الالتزام بدفع مبالغ مالية نظير النفقة والتكفل بالإنفاق على تعليم الأبناء والالتزام بمصروفات الأسرة.
ومع أن قضاة محاكم الأسرة في مصر يتعاملون مع قضايا الهجر من منظور تقديري بحت، فإن أغلب الأحكام تأتي في صالح الزوجة، لأنه يصعب على المرأة ادعاء أن زوجها هرب منها، ولن تجرؤ على هذا الاعتراف الذي يجلب لها نظرة سلبية إلا إذا كانت الواقعة حقيقية، وفاض بها الكيل ولم تعد تتحمل المزيد من الصبر.
وغالبا ما يكون الأبناء سببا في لجوء الزوجة المهجورة إلى القضاء لطلب الطلاق، لأن هناك أمورا يصعب عليها القيام بها، طالما أن الأوراق الرسمية تقول إن لهؤلاء الأبناء أبا، وحده من يحق له التصرف، مهما حاولت الأم أن تُثبت هجر زوجها لها، وتقدم أدلة وإثباتات للجهات الحكومية بأنها أصبحت العائل الوحيد للأبناء.
ولا تستطيع الأم التي هجرها زوجها تسجيل أبنائها في المدارس أو تحويلهم منها، بحكم أن الولاية التعليمية للأب فقط، طالما أنه على قيد الحياة ولا توجد أوراق تثبت الطلاق وتؤكد أحقية الزوجة في التصرف في تعليم أولادها، لذلك تضطر هذه الفئة من السيدات إلى رفع قضايا طلاق على نحو مستعجل، حفاظا على مستقبل الأبناء.
وتتمثل أزمة الكثير من الزوجات المهجورات في أنهن يعشن مأساة نفسية تجاه نظرة الأهل والأقارب لهن، فلا يُدرك هؤلاء الانعكاسات السلبية الخطيرة على المرأة وحجم الإهانة التي تعيش فيها، وأغلبهن يلجأن إلى الكذب بادعاء سفر الزوج إلى الخارج، للتخفيف من وطأة المعايرة والاستخفاف بمشاعرهن وجعلهن مدعاة للسخرية.

وقالت أسماء عبده، وهي باحثة واستشارية في شؤون العلاقات الأسرية، إن أكبر أزمات المرأة مع الهجر الزوجي أن المجتمع لا يرحمها بنظراته وتلميحاته السلبية التي تحمّلها مسؤولية العيش دون هوية، والخطر أن ينعكس ذلك على علاقتها بأبنائها، لأنها طوال الوقت تعيش حالة اكتئاب بسبب وضعها المعلق، قد تتحول إلى عدوانية.
وأضافت لـ”العرب”، أن تغليف الهجر بغطاء ديني وشرعي يوسع دائرة هروب الأزواج، بذريعة أن الزوجات يستحقِقْن الهجر بدافع التأديب، ما يفرض على المؤسسات الدينية تفنيد ادعاءات أصحاب الفتاوى المتشددة لصالح الرجل، وتغيير مفهوم الهجر قبل أن يتحول إلى ظاهرة أسرية تصعب السيطرة عليها.
وبالتوازي مع حتمية وجود خطاب ديني معتدل يعالج المفاهيم الخاطئة عن الهجر، يقع الدور الأكبر على أرباب الأسر نفسها لدعم ابنتهم التي هجرها زوجها، ولا يحملونها المسؤولية، ويتعاملون معها على أنها تستحق أقسى الأساليب العقابية في صورة الهجر، لمجرد أنها لم تستطع احتواء زوجها أو نيل رضاه قبل أن يلجأ إلى هذا الطريق.
ويفسر علماء الاجتماع تنامي الهجر الزوجي بأنه انعكاس واضح لإهمال الأسرة تربية الأبناء على قدسية تحمل المسؤولية وآدمية التعامل مع المرأة وتعريفهم كيفية حل المشكلات الزوجية، بعيدا عن القسوة والإذلال والعدوانية والهروب من المنزل لفترة، للإخفاق في مواجهة أية أزمة معقدة أو طارئة مثل الفقر وغياب التفاهم.
وذكرت دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة أخيرا، أن عدد الأزواج الهاربين بلغ 18 ألف حالة، وهناك نسبة كبيرة من الزوجات رفضن اللجوء إلى القضاء لطلب الطلاق، خوفا من نظرة المجتمع ووصمهن بتوصيفات سيئة، أو التشبث بأمل العودة وعدم التسرع في هدم الكيان الأسري.