تساؤلات العشق والغواية في عرض مسرحي مخاتل بالقاهرة

"فطائر التفاح".. ديودراما الجدل الإنساني والبحث عن الدفء المفقود.
الاثنين 2020/03/09
الكتب.. عدوّة الزوجة الباحثة عن الاحتواء

في بيت مخملي كلاسيكي يشع احمرارا ظاهريّا وبرودة نفسية وجسدية وطقسية، دارت مسرحية “فطائر التفاح”، على مسرح الغد بالقاهرة. وهي مسرحية ذهنية في جوهرها، تنتمي إلى مسرح الديودراما، وتثير إشكالات متعدّدة بشأن فنّيات المسرح الحديث من جهة، وحول طبيعة العلاقات العاطفية والزوجية من جهة أخرى.

القاهرة  - يسعى مسرح الشباب في مصر إلى التطوير والتجريب، وارتياد آفاق وثيمات جديدة أملا في خلخلة السائد وتحريك المستقر في المشهد المسرحي المعاصر. ومن وسائل الفرق المسرحية الراهنة نحو تحقيق طموحاتها وآمالها، الارتكاز على أشكال مسرحية غير نمطية، منها المونودراما (مسرح الممثل الواحد) والديودراما (المسرح الثنائي) والتريودراما (الثلاثي) وغيرها. والانطلاق من معالجات وصيغ عصرية لقصص تراثية وحكايات مأثورة وأساطير قديمة، وإعادة إحياء أعمال عالمية معروفة وشخصيات تاريخية حقيقية ومتخيلة، إلى آخر هذه الأساليب الهادفة إلى قراءة وجه الواقع الفادح وتعريته بجسارة والتعبير عنه بأبجديات غير مباشرة.

وجاء عرض الديودراما “فطائر التفاح” على مسرح الغد بالقاهرة، حيث انطلق من قصة آدم وحواء والشجرة المحرّمة وهبوط آدم من الجنة بفعل الغواية، واتخذ العرض جذور هذه القصة وملابساتها ليتتبّع تطوّرات العلاقة بين الزوجين “آدم” و”حواء” على الأرض، بهدف إعادة صياغة العلاقة بين الذكر والأنثى على أساس من المودة، وإعلاء شأن العشق كوقود لازم لمواصلة الحياة، وطاقة محفزة للروح.

تمكنت المسرحية، من تأليف أمجد أبوالعلاء وإخراج محمد متولي وتمثيل أحمد الرافعي وتيسير عبدالعزيز وديكور فادي فوكيه وموسيقى أحمد الناصر وإضاءة عز حلمي، من طرح تساؤلات كثيرة حول جدوى الحياة، ومعنى الموت، وفلسفة مؤسسة الزواج، والتكامل بين الرجل والمرأة، وطبيعة الدور الذي يلعبه كل منهما، وكيف يمكن أن ينقلب صقيع العالم المحيط إلى دفء ووهج؟

الرأس والجسد

تساؤلات كثيرة حول جدوى الحياة ومعنى الموت وفلسفة مؤسسة الزواج
تساؤلات كثيرة حول جدوى الحياة ومعنى الموت وفلسفة مؤسسة الزواج

قدمت مسرحية “فطائر التفاح” ما يمكن تسميته بمباراة بين الرأس والجسد، على أن هذا الصراع بدا محسوما في أغلب جوانبه لحساب الرأس المهيمن على النص، وعلى العرض كله، الذي تقلصت أطرافه وأعضاؤه الأخرى تحت وطأة تفوّق الأفكار الجاهزة المجردة. فالعرض اقترب كثيرا من ملامح المسرح الذهني، ودفعه هذا الحرص الزائد على الجدل والتعمّق التحليلي إلى إهدار الكثير من سمات الحيوية والانسيابية والحركة والتوقّد والمفردات البصرية وعوامل الجذب والإبهار اللازمة في المسرح الحديث.

هذا الصراع بين الرأس والجسد، تمثل في مستوى آخر من خلال المعالجة، فالبطلان كذلك يكادان يكونان رأسا وجسدا، إذ يعمل “آدم” كاتبا محترفا، ويخلص في عمله إلى درجة أن صار راهبا في محراب التأليف، وتحوّل بيته إلى مكتبة مليئة بالآلاف من العناوين.

على النقيض، فإن المرأة “حواء”، البارعة في إعداد فطائر التفاح الساخنة، هي ذلك الجسد الغض والكبريت القابل للاشتعال في بيت الزوجية الذي بات باردا بسبب انشغال الزوج عنها، ثم سقوطه فريسة للمرض المزمن. وقد توترت العلاقة كثيرا بين الطرفين بسبب حالة الفصام التي استمرت سنوات، وتمكنت من فصل الرأس عن الجسد.

خطورة التقمّص

مسرحية تستحضر قصة آدم وحواء والشجرة المحرّمة لإعادة صياغة العلاقة بين الرجل والمرأة
مسرحية تستحضر قصة آدم وحواء والشجرة المحرّمة لإعادة صياغة العلاقة بين الرجل والمرأة

لم يختزل العرض علاقة الرجل والمرأة في ما هو مادي، وإنما تعمق في تناول مقتضيات الامتزاج الروحي المنشود بين الزوجين من أجل إصلاح العلاقة بينهما، ولكي يعودا كيانا واحدا، يجب أن يصيرا جسدا واحدا وروحا واحدة أيضا. وقد تفنّنت الزوجة بطوفان عشقها الخالص ومشاعرها المتدفقة في محاولات احتواء الزوج واستمالته من جديد، في الليلة الأخيرة قبل وفاته، ليدرك بالفعل في اللحظات الحاسمة قبل حافة النهاية أن حواء هي جنته الحقيقية التي كان يجب أن يسكنها، وأنها ليست أبدا سبب الغواية والطرد من الجنة.

وجاء الأحمر سيد الألوان والانفعالات في عرض “فطائر التفاح”، فالمناخ كله مهيأ لتلعب الفطائر دورها السحري في تأجيج الخميرة الصلصالية البشرية لدى آدم المحنّط، المنغلق في ذاته داخل “الروب” التقليدي. كما تمدّدت أشعة الأحمر من ثمار التفاح، لتصبغ رداء الزوجة المثير، والستائر، وأضواء المصابيح، وسائر متعلقات البيت. ومع زيادة تركيز الجرعة النشطة، يسترد الزوج إحساسه بزوجته، ويعيد فهم ذاته والعالم من جديد.

عانى العرض من خطورة ما، تجسّدت في تقمّص البطلين دوريهما حدّ الإفراط، فانخلعت صفة البرودة والبطء على أداء الزوج الأرستقراطي وأحاديثه وتحركاته بشكل مبالغ فيه. الأمر الذي أوصل المسرحية ذاتها إلى قدر من الملل والرتابة والتكلّس بسبب هذه الإطالة غير المبرّرة في إبراز التناقض بين الشخصين.

على العكس، فقد منحت الزوجة “المنتمية إلى طبقة اجتماعية متوسطة” المسرحية حيوية وخفة ومرحا. لكن الحوارات الجدلية المسهبة، ذات الأبعاد الفلسفية والوجودية “من أنت؟ أحبك وأخافك، أنت معي ولست معي” قد زادت معاناة المسرحية في محاولة إحداث التفجير والتأثير المأمول عبر هذه الحصة المعرفية الدسمة حد الإنهاك.

مع ذلك، يُحتسب للعرض ما فيه من ومضات إبداعية فردية، كما في الأداء التمثيلي والتعبيري للبطلة، باللغة العربية الفصحى السلسة، كما أنها قدّمت بعض الأغنيات الشعبية والفلكلورية بأسلوب رشيق. وكذلك السينوغرافيا المتقنة التي برعت في تصوير البيت الكلاسيكي بأثاثه ووحداته وغرفه ومكتبته وستائره وسريره وسائر تفاصيله.

نجحت كذلك تقنية شاشة السينما الخلفية، التي جرى استغلالها بعناية في استدعاء قصة آدم وحواء وطردهما من الجنة، وتفوّقت الإضاءة والموسيقى والملابس التي جاءت متناغمة مع طبيعة الشخصيتين.

أسهمت هذه العناصر المنسجمة كلها، رغم الإيقاع العام الهادئ أكثر ممّا ينبغي، في إيقاظ الشموع المنثورة على المسرح، من أجل مناداة حالة العشق والشغف، وقنص الحياة من جديد من قبضة الموت القادم لا محالة.

17