تأجيل التظاهرات الثقافية في تونس حل سهل يشبه الإهانة

تجاهل الثقافة والتركيز الأعرج على الاقتصاد لن يؤديا إلى إصلاح الوضع مطلقا بل سيؤديان إلى نفق مسدود.
الثلاثاء 2020/10/27
التونسيون يرفضون إهانة الثقافة

ما زالت تونس تعاني إلى اليوم من نظرة السياسيين الدونية إلى قطاع الثقافة، نظرة قاصرة عن فهم الحاضر وإصلاحه وتهيئة التربة للمستقبل، ولعل القرارات الأخيرة من إلغاء التظاهرات الثقافية والفنية وتقليص ميزانية وزارة الثقافة القشة التي ستقصم المشهد الثقافي المتأزم بطبعه.

تعيش تونس تفاقما سريعا لانتشار فايروس كورونا المستجد، ما تسبب في إلغاء الكثير من التظاهرات الثقافية والفنية، بداية بإرجاء تنظيم أيام قرطاج السينمائية إلى شهر ديسمبر. وأخيرا تأجيل معرض تونس الدولي للكتاب.

وقد أعلنت الهيئة المنظمة للدورة الـ36 لمعرض تونس الدولي للكتاب، عن تأجيل فعالياتها إلى الربيع المقبل ضمن الإجراءات الاحترازية من تفشي فايروس كورونا.

الحلول السهلة

كان من المقرر تنظيم الدورة الـ36 للمعرض ما بين 13 و22 نوفمبر، لكن الهيئة اتخذت قرار تأجيلها مبررة ذلك “بالوضع الصحي السائد بتونس وغيرها من بلدان العالم بسبب انتشار الفايروس”، بينما الوضع الصحي في تونس على غرار بلدان أخرى مهيأ للتفاقم أكثر.

تأجلت الكثير من التظاهرات الثقافية والفنية في مختلف أنحاء العالم، من جوائز الأوسكار إلى مهرجان كان إلى معارض كتب عريقة في مختلف الأقطار شرقا وغربا. التأجيل أو الإلغاء إذن ليس حكرا على تونس التي تعرف موجة ثانية أكثر حدة من فايروس كورونا المستجد.

الثقافة ليست ترفا ولا ترفيها ولا لهوا ومكملات، إنها النور الذي يضيء العقل ويمنحه رؤية لتجاوز الصعاب والعقبات

لكن يبقى التأجيل من الحلول السهلة، وهو رهين إجراءات استثنائية ضرورية، منها الأخذ في الاعتبار الوضع الهش للعاملين في القطاعات الثقافية والفنية ودعمهم في مدة الإيقاف. وهذا ما لم تأخذه السلطة التونسية بالجدية الكافية.

لا تتوقف قطاعات الفنون على مؤسسات الدولة، بل هناك مؤسسات خاصة من قاعات عرض وناشرين ومصممين وتقنيين ومصورين ومنتجين وعمال.. إلخ من المتدخلين في قطاع متشابك.

إن إيقاف كل هؤلاء عن العمل لا يقل خطرا عن انتشار الفايروس، حيث سيسبب أزمة اقتصادية كبيرة على كواهلهم، وهم في الأصل وضعيات هشة، لا تتحمل الإيقاف عن العمل أو توقف دورة الإنتاج.

نفس الشيء بالنسبة إلى المقاهي والحانات التي مارست حركات احتجاجية وضغطا كبيرا على  السلطة حتى وجدت حلولا لمواصلتها العمل بطاقة استيعاب لا تتجاوز
النصف، لإنقاذ هذه الطبقة من الانهيار الخطير.

لكن لم تتخذ السلطة إجراءات مماثلة للقطاع الفني والثقافي، رغم استجارة كل المتدخلين فيه لعدم الإيقاف الكلي الذي يشبه الشلل التام. بل زد على ذلك تتجه تونس إلى مواصلة إيقاف العمل الثقافي والتظاهرات الفنية إلى نهاية العام الحالي، وهو ما ينبئ بكارثة حقيقية للقطاع الذي يعاني من التجاهل.

النظرة الدونية

قطاع الثقافة والفنون يعاني من الهشاشة ومن نظرة الحكومات الدونية
قطاع الثقافة والفنون يعاني من الهشاشة ومن نظرة الحكومات الدونية

تجاهل قطاع الثقافة والفنون يبدو جليا في تونس، خاصة من خلال إبقاء وزارة الثقافة دون وزير خاص بها بعد إقالة وزير الثقافة وليد الزيدي بسبب تصريحاته رفضا لإيقاف الأنشطة الثقافية، وتكليف وزير السياحة بالنيابة ليشرف على شؤون الوزارة، ليتواصل هذا الإجراء المتسرع. إضافة إلى ذلك فإن الإجراء الأكثر تعسفا هو “تقليص الحكومة في الميزانية المخصّصة لوزارة الشؤون الثقافية لسنة 2021”.

وهو إجراء رفضته الجامعة العامة للثقافة المنضوية تحت راية الاتحاد العام التونسي للشغل، مطالبة بالترفيع في ميزانية وزارة الشؤون الثقافية لسنة 2021 إلى حدود 1 في المئة من ميزانية البلاد، والتعهّد بحلحلة الإشكاليات العالقة التي ذكرت منها تسوية الوضعيات التشغيلية الهشة في القطاع وتدارك المديونية والعجز عن التسيير في الجهات والمزيد من العناية بالتراث وبأوضاع الفنانين والفاعلين الثقافيين. ونبّهت إلى تداعياته الخطيرة على العاملين في القطاع الثقافي.

التقليص في ميزانية وزارة الثقافة وغياب وزير خاص بها، جزء من مشهد كامل، تعاني فيه الثقافة والعاملون فيها من نظرة دونية، لحكومة تعتبر الاقتصاد أولى أولوياتها، وترى الثقافة “ترفيها”، بينما لا يمكن التأسيس لاقتصاد متماسك دون أمن وثقافة وتعليم وصحة ونقل متماسكة، كل القطاعات تخدم بعضها بعضا.

ربما ما تجهله الحكومة التونسية هو أن الثقافة والفنون تتداخلان في كل القطاعات الأخرى، ولهما دور محوري وأساسي في وضع استثنائي مثلما تشهده البلاد اليوم من وضع صحي حرج ووضع سياسي مضطرب ووضع أمني ضعيف وانتشار العنف والفكر المتطرف وضعف الاقتصاد وتفكك مؤسسات التعليم والصحة والنقل العمومي والعدل وغيرها من الإشكالات.

الثقافة ليست ترفا ولا ترفيها ولا لهوا ومكملات، إنها النور الذي يضيء العقل ويمنحه رؤية لتجاوز الصعاب والعقبات، إنها مصدر الأمل في أكثر اللحظات العصيبة وأشدها قتامة، الثقافة طريق لبناء هياكل دولة متكاملة وللتغيير.

إن ركوب الحافلة ثقافة، والحفاظ على الصحة والاتزان النفسي والجسدي ثقافة والأكل والكلام ثقافة والتعايش ونبذ العنف ثقافة، والسير في الشارع والتحدث إلى الآخرين والعلاج والتعلم والتفكير والعدل وحتى الأحلام كلها ثقافة كاملة، تساهم في صنعها الأعمال الفنية من مسرح وسينما وموسيقى وفنون تشكيلية ورقص والأعمال الأدبية.

إن تجاهل الثقافة والتركيز الأعرج على الاقتصاد لن يؤديا إلى إصلاح الوضع مطلقا، وهو ما نراه فعليا حتى في رؤية الدولة العرجاء للإصلاح الاقتصادي من خلال الترفيع في الضرائب، بما يذكرنا في الاحتلال العثماني لتونس، بثورة المظلومين من المناطق الداخلية بقيادة علي بن غذاهم.

14