التلفزيون يحتضر وصناعة الوعي في خطر

صناعة الوعي أمر بالغ الدقة والأهمية ولن تحقق نتائج إيجابية إلا برؤية متوازنة تؤمن بأن هذه الصناعة عملية مشتركة.
الأحد 2025/06/22
نهاية الشاشة الصغيرة.. ولادة الشاشة الأصغر

لم تعد للتلفزيون تلك المكانة والتأثير اللذين كانا له في عصر ما قبل الإنترنت وانتشار الهواتف الذكية المرتبطة بالشبكة العنكبوتية لدى كل فرد، من الأطفال إلى الشيوخ.

هيمنت شاشات الهواتف المصغرة على شاشات التلفزيون الصغيرة، وبات لكل فرد تلفزيونه الخاص في جيبه وأداة ترفيهه وتلقيه للمعارف أو الأخبار أو الأحداث وتحليلاتها وهلم جرّا.

الهواتف الذكية أدوات اتصال وتلقّ أكثر تشابكا من كل ما سبقها، إنها تفاعلية ديمقراطية، توهم صاحبها بالحرية المطلقة ومركزية ذاته في هذا العالم، إنها رفيقته منذ استيقاظه إلى نومه. لا يمكن إنكار دورها الأساسي في صناعة الوعي اليوم، وإن كان ذلك من دون أدنى ضوابط أخلاقية أو معرفية أو منهجية، فيها ما هو إيجابي بالتأكيد مثل تعميم المعارف وسرعة تداولها وتبسيطها وتجديد طرق طرحها، لكن لا شيء يحكم صناعة الوعي التي تقدمها الهواتف الذكية، صناعة ترسخ التشظي والتشويش والفوضى.

كتبت سابقا عن تحول هذه الأجهزة (الهواتف الذكية) إلى عقول منفصلة ضرورية لكل فرد تمهيدا لإدماجها في الدماغ مع تطور العلم وقصور هذا العضو عن تحمل السيل المعلوماتي الفوضوي الرهيب، ناهيك عن الكسل والبيئة الاستهلاكية السريعة والمتسارعة ما سيخلق لنا “الإنسان الثالث” المندمج مع الآلة، لكن دعنا ممّا يحدث اليوم، ألا وهو اكتساح هذه الأجهزة لحياة الأفراد وتحكمها المطلق بصناعة وعيهم.

◄ الرهان الأساسي اليوم هو صناعة الوعي، والذي تتكامل فيه كل المرافق ويبدأ منذ المراحل العمرية المبكرة لترسيخ العقل النقدي والتوازن النفسي والفكري والحرمة الجسدية والانفتاح والتعايش والتجدد

تتحكم الخوارزميات ووسائل التواصل اليوم بصناعة الوعي، لها أن تزيد مقدار العنف أو تنشر التضليل أو الوهم، ولها أن تمزج الرديء مع الجيد وتفكك المعايير الأخلاقية وحتى العلمية مهما بلغت قوتها، هذه الوسائل بإمكانها أن تسقط حكومات وتدخل شعوبا في حروب أهلية وتنكّل بالعلماء والمثقفين وتزيّف التاريخ، كما بإمكانها دحض الأكاذيب وادعاء الإصلاح والديمقراطية وحماية الحقوق إلى ما لا نهاية من جمع المتناقضات، لكن الثابت أنها متاحة لمن “يوجهها جنوبا أو شمالا.”

إذن لم تعد للتلفزيون كما لم تعد للراديوهات من قبلها، أيّ قدرة على التحكم بصناعة الوعي بشكل منسجم مع تصورات من يقودها، وهو السلطة السياسية المعلومة دون شك، وصارت الهواتف الذكية وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل في صدارة هذه المهمة، لكننا لا نعلم من يقودها وإلى أيّ غاية، ربما في أغلب الحالات هو من يدفع ليربح، أي رأس المال، وربما هو حكومات وأجهزة سلطة أخرى، لا شيء ثابتا في هذا العالم الذي يتغير كل لحظة.

عالم الشاشات المصغرة عالم سريع الإيقاع، يمكنه اقتراف أيّ شيء لجذب انتباه المستهلكين، ولعل أبرز الأساليب الدارجة اليوم أسلوب الصدمة، هناك فيديوهات وصور ومواد مسموعة وأخرى مكتوبة تسعى كلها إلى خلق الصدمة بتفاوت، لا تهم الطريقة كيف، قد تكون العنف في أبشع تجلياته، أو تجارة الجنس وعرض الجسد كسلعة، أو إبراز الثراء الفاحش، أو تسفيه معتقدات البعض، أو دحض النظريات العلمية أو التواريخ بشكل فج دون أدنى معرفة، أو بتقديم خطابات صادمة بفجاجتها وعنفها وسوقيتها وهلمّ جرا من طرق لإحداث الصدمة وبالتالي خلق التداول والتفاعل ولو كان بالشتائم لا يهم.

أثبتت طرق إحداث الصدمة نجاعتها في جلب الاهتمام والتفاعل، وبالتالي تحقق المتابعة وتجذب إليها المستهلكين، ربما يكون أغلبهم غاضبا منفعلا رافضا، لكنه في النهاية يتداول المادة الصادمة على نحو لا يدرك معه أنها تسربت إلى وعيه وستترسّب في لاوعيه، ومع المداومة على الصدمات، مع تفاوت فجاجتها، سيتعب من المواقف الدفاعية ومن التلقي السلبي، وبالتالي ستحقق الصدمات أهدافها بنجاعة في تجريد الذات من كل ثوابتها أو “حُرُماتها” وخصوصياتها، وتصنع منها إذن ذاتا مذعنة منهزمة، تنبع كل أفعالها من خارجها، يمكن للعالم الرقمي توجيهها أينما شاء وكيفما شاء.

التلفزيون بكل مساوئه، وما كان يمثله من جانب اللهو وأداة للسلطة، أقل خطرا من الشاشات المصغرة، وكان يمكنه أن يتدارك الوضع ويطور من آلياته، ليحقق توازنا ما في هذا المشهد الفوضوي الخطير، لأنه مازال يتمتع بنوع من المصداقية لدى عدد هام من شرائح المجتمع، لكن ما حدث كان مثيرا للرثاء.

انخرطت القنوات التلفزيونية تحت حجة نقص التمويل والصناعة الإعلامية في تبني نفس أساليب الشبكات الاجتماعية الصادمة، لتحقيق المتابعة وجذب المتابعين، وبات التسابق بين وسيلة ووسيلة من يحدث صدمة أكبر، أناس مضطربون بلا ثقافة ولا مواهب يقدمون في الواجهة لا لشيء إلا لتحقيق الصدمة، معلومات مضللة، جهل معمم، ترويج للعنف وتشجيع على الهدم، تسفيه للمعرفة والتعلّم، وغيرها من أمور تثير الاستغراب من ضحالتها.

من الضروري أن تتعامل القنوات التلفزيونية مع مواقع التواصل، وتنفتح على التقنيات الحديثة، من الضروري أن تنوع البرامج وتجدد الطرح.. إلخ، لكن السقوط المدوي في أساليب الترويج أو الصدمة أو الاستهلاك في أسوأ ملامحه، هو أمر يستحق وقفة جدية، في النهاية لن تتمكن هذه القنوات من مجاراة سرعة الهواتف الذكية ومواقع التواصل والشبكة العنكبوتية، وبالتالي استعمالها لنفس الأساليب هو إعلان للنهاية لا غير.

◄ الهواتف الذكية أدوات اتصال وتلقّ أكثر تشابكا من كل ما سبقها، إنها تفاعلية ديمقراطية، توهم صاحبها بالحرية المطلقة ومركزية ذاته في هذا العالم، إنها رفيقته منذ استيقاظه إلى نومه

لم أتحدث عن القنوات العمومية فتلك بطبعها مقابر تعتاش على تمويلات الدولة، وبالتالي لا يهمها أن تتطور أو تبث موادها الباهتة حتى لأشباح الظهيرة.

إن صناعة الوعي أمر بالغ الدقة والأهمية، ولن تحقق نتائج إيجابية إلا برؤية متوازنة، تؤمن بأن هذه الصناعة عملية مشتركة بين التعليم والقراءة وتناول المواد الفنية والثقافية والتلفزيون والهواتف الذكية والإنترنت، كلها أدوات يمكنها أن تتحول إلى قوة ناعمة إذا تم استغلالها بطرق مدروسة، لا ندعو إلى تعميم الرقابة عليها، بل إلى تعميم الوعي بإيجابياتها وسلبياتها، وتوفير الإحاطة القانونية لها، لحماية روادها من مخاطر كبرى نفسية وعقلية وجسدية، كأن نجرّم العنف وتجارة الجسد والمخدرات المنتشرة خاصة بين الأطفال اليوم وغيرها من ظواهر منفلتة.

ربما لا تملك حكوماتنا التي تعاني من ضيق الأفق وتفاقم المشاكل القدرات الكافية للعمل على تلافي مخاطر هذا المشهد الفوضوي، وربما منوط بالمثقفين والفنانين والرياضيين والإعلاميين والنُخب أن يكونوا في واجهة المشهد ولو بشكل فردي، لنبذ العنف والتنبيه من مخاطر وهْم حرية المعرفة علاوة على نبذ الصراعات الرقمية التي تمهد لصراعات دموية في الواقع، لكن من المؤسف أن نجد أغلبهم في الصف الآخر متسلحا بالصدامية وضعف الوعي ومصطفا بشكل مخجل أحيانا فيكون جزءا من المشكلة لا الحل.

لا يمكن اليوم أن يكون الرفض هو الحل لمعالجة الفوضى الخطيرة التي تهدد سلامة الفرد والمجتمعات، والتي تنزع عن الإنسان والإنسانية المعنى، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث، خلق ذوات ومجتمعات أشبه بالأوعية الفارغة. مسيرة الإنسان محكومة بالتجدد والتغيير، رغم أنه غالبا ما يمجّد القديم ويخشى الجديد.

الرهان الأساسي اليوم هو صناعة الوعي، والذي تتكامل فيه كل المرافق ويبدأ منذ المراحل العمرية المبكرة لترسيخ العقل النقدي والتوازن النفسي والفكري والحرمة الجسدية والانفتاح والتعايش والتجدد، لا سبيل غير ذلك ونحن نعيش في تسونامي التكنولوجيا الذي يجب فهمه واستغلاله، قد تتغير أجهزة صناعة الوعي وقد يموت التلفزيون مثلا أو تتحول الكتب من الورق إلى الشاشات ويصبح لكل شخص مساعد من الذكاء الاصطناعي، لكن توجيه هذه الأدوات إيجابيا هو الأهم.

9