التفاهة عنصر ضروري.. لا تحاربوه ولا تتركوه ينتصر

تعريفات التفاهة كثيرة ومتعددة، رغم أن الفيلسوف الكندي آلان دونو قد رسم ملامح واضحة ودقيقة للتفاهة ونظامها، فإنها تراوح مكانها بين كونها مفهوما وانطباعا خاصا، فما أراه أنا تافها قد لا يراه غيري كذلك، لكن نقطة الالتقاء في تعريف التفاهة أنها كل ما يقتصر على السطحية والسذاجة وغياب القيمة العميقة الفكرية وحتى العاطفية، وغياب الإبداع والذكاء والكفاءة، وكل ما يذهب بالفعل الإنساني إلى الدرجات الدنيا من العقل.
لا نسعى هنا إلى حصر مفهوم نهائي للتفاهة، فقد تكفل دونو بتقديم ملامح وافية لها في كتابه “نظام التفاهة”، ومازالت ستتوسع كمفهوم حتى ما بعد كتاب دونو وتصوراته المهمة حول هيمنة التفاهة وتحكّمها بالعالم اليوم.
لكن أليس في كل منّا جانب تافه، فينا من يُظهره وفينا من يخفيه بإحكام خوفا من الوصْم، أيّا كان موقعنا من المعرفة ومكانتنا وخبراتنا العاطفية والفكرية والعملية، فإن التفاهة عنصر أصيل من تكويننا ومن حيواتنا التي تتنوع وتختلف، ولكنها تشترك في الجوانب التافهة حتما.
◄ من الخطر أن تتحول التفاهة من مساحة فردية صغيرة إلى نمط حياة ومعيار نجاح وتحقق وانتشار ووسيلة شهرة وتحقيق الذات
الأفعال التافهة وحتى الانفعالات والتصورات التافهة التي بلا قيمة، هي جزء أساسي من يومياتنا، نقف في طوابير في سوبرماركت، نُلقي القمامة، نقول كلاما سخيفا في دواخلنا، نجلس في المقاهي ونحدق في المارة، نقود سياراتنا بلا وجهة، نتخاصم في الطرقات مع سائقين آخرين، نخوض محادثات لا معنى فيها، نتناول الطعام دون جوع، نستهلك، نتكئ على الأرائك دون فعل شيء، نضحك أو نحزن بلا سبب واضح، نتصفح مواقع التواصل بلا غاية.. إلخ، أمثلة من أفعال كثيرة نقوم بها ولا تحتاج سوى درجة دنيا من الذكاء، ولكنها متكررة وموجودة وبعضها ضروري في يومياتنا.
ربما ارتبطت هذه الأفعال والانفعالات بالأفراد، وهنا يكون الفرق بين أن تكون التفاهة نظاما سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا يحكم المجتمعات والدول، ويخلق من الشعبوية والصدامية واللامعنى والجهل والعنجهية والكذب المكشوف وسائل حكم، وبين أن تبقى في صيغتها الفردية، مساحة ينزع فيها الإنسان عقله ومهاراته وعواطفه العميقة ليرتاح قليلا.
الحياة اليوم مضغوطة بشكل كبير، الزمن مضغوط، يوم واحد الآن قد يعادل شهرا قبل خمسين عاما، المتطلبات كثيرة، وكل فرد مطالب بأن يخوض صراعا بلا رأفة ليضمن له مكانة ما، الصراعات في كل مكان صراعات عنيفة أو باردة صاخبة أو صامتة، صراعات في العمل، في الشوارع، في العلاقات في البيت، في تصوراتنا عن أنفسنا، والاحتياجات لا تتوقف عن التوسع يوما بعد يوم، بينما نلهث وراءها مطالبين من ناحية أخرى بتطوير ذواتنا وآدائنا وتصوراتنا وأفكارنا وحتى أجسادنا وأشكالنا، ومواكبة هذه الحياة المعاصرة التي تشبه الآلة الضخمة التي تتحرك بنا بسرعة دون مراعاة للسرعة الخاصة لكل منا ولا غيره.
زد على مساحة الفرد ما أثقلته به تكنولوجيا التواصل الحديثة، التي جعلته يتحمل وطأة ما يحدث في كل أنحاء العالم، ولو كان قتال صبيّ مع صبي في زقاق يبعد آلاف الأميال، علاوة على الحروب وجرائم الإبادة (كالتي تحدث في غزة) التي باتت تبث على المباشر وكأنها أفلام مرعبة، نضيف إليها أمواج المعارف التي يقدمها “المؤثرون” والمواقع وصفحات مختصة وغيرها، وهي في أغلبها مغالطات وأكاذيب خطيرة، تجبر ذا العقل على بذل جهد أكبر لفرزها، وتهيمن على ضعيف العقل فتخلق له وعيا مشوّها وهلمّ جرا.
أيامنا مُجهِدة حقا، تدفع عقولنا إلى ثرثرات كثيرة، وتصورات قد تنزل إلى مرتبة الأوهام، بينما أجهزتنا النفسية مهتزة بأثقالها وملاحقة بكل ما من شأنه تدميرها. إذن قد تكون التفاهة حلا لإسكات مؤقت للعقل، ومنح الفرد مساحة ساذجة فارغة من كل ثقل، مساحة للراحة والركون أو ممارسة اللعب بشكل ساذج وغيرها من ممارسات تافهة. التفاهة ضرورية اليوم، بشرط ألاّ تصبح النظام المسيطر لا على الفرد ولا على المجتمع، وهذا ما يحصل.
في الواقع العربي المحكوم بالتقيّة، يُخفي المثقفون والمبدعون والفنانون وحتى المفكرون والنخب جوانبهم التافهة بشكل مُحكم، بعضهم يتعب من ذلك الإخفاء، يكفي حدث قادح (يترك وظيفته النخبوية أو فعل الكتابة أو الإبداع أو مركزه النخبوي.. إلخ) ليتمرد على أقنعته الثقيلة، ويكشف لنا عن جانبه التافه المثير للاستغراب في أحيان كثيرة، كأننا إزاء شخص آخر تماما.
التفاهة في الفرد عنصر أصيل، والتفاهة التي تملأ نُخبنا ومثقفينا ومبدعينا مثيرة للاستغراب لأنها تشذ بشكل مفاجئ يشبه النمو الانسلاخي، ولا تتسق مع الجوانب الأخرى الأكثر جدية. لا توازن للإنسان إلا بتكامل جانبيه الجدي والمرح، أو لك أن تسميه التافه فمن وظائف التفاهة المرح والإضحاك والترفيه والتراخي.
◄ الحياة اليوم مضغوطة بشكل كبير، الزمن مضغوط، يوم واحد الآن قد يعادل شهرا قبل خمسين عاما، المتطلبات كثيرة، وكل فرد مطالب بأن يخوض صراعا بلا رأفة ليضمن له مكانة ما
عودة إلى دونو فإن تحول التفاهة من مساحة فردية يتحكم بها صاحبها إلى نظام يحكمه ويتحكم به، زعزع الكثير من البنى النفسية والاجتماعية والثقافية، وحتى النخب، من كان من المفترض أن يقفوا ضد هذا “الانتصار” الناعم للتفاهة، وتحديد مساحاتها، كشفوا هم أيضا عن تفاهات أخطر بكثير، هذا ربما يعود إلى زيف جوهر هذه النُخب الوظيفيّة، أو إلى عدم مرونتها في التعامل مع المتغيرات وتطوير الأفكار والخطاب والفعل والانغلاق، ما ساهم في تركها معرضة لضربات السخرية والترذيل في موقع دفاعي غير بناء ولا طليعي.
من الخطر أن تتحول التفاهة من مساحة فردية صغيرة إلى نمط حياة ومعيار نجاح وتحقق وانتشار ووسيلة شهرة وتحقيق الذات، وتخلق بالتالي كما هو ماثل اليوم نظامها الاستهلاكي المجنون وشباكها التي تحيطنا من كل جانب، وهذا يفرغ الإنسان من معناه كليا.
لقد هيمنت التفاهة بشكل مرعب اليوم، حتى صار الجديّون ملاحقين من التافهين الذين لا يتوقف عددهم عن التضاعف، ما سيجعل من المشهد القادم كاريكاتوريا بامتياز. من ناحية أخرى لن تبقى التفاهة في مستوى انتصارها الناعم، ستتحول حتما إلى نوع من العنف الأعمى والاعتباطي والذي سيصعب التحكم فيه، خاصة مع تشجيع نظام التفاهة على العنجهية والعنف والجهل.
التفاهة إذن عنصر ضروري وأساسي في الإنسان، كما أكدنا، لكن عدم فهمه أو تقدير تأثيراته وأهميته بالقدر الكافي لوضع حلول عملية لمقاومة تغوله، من شأنه أن يتسبب في نتائج مدمرة. لذا فالتفاهة تحتاج منا إلى بحث أكثر تعمقا بعيدا عن المواجهات الصدامية الفارغة.