النهم الاستهلاكي عند الأبناء.. خلل في التربية أم سلوك متوارث

التربية الخاطئة والتدليل المفرط وغياب ثقافة الادخار تؤسس لجيل مادي.
الثلاثاء 2021/10/05
إطلاق العنان للأطفال يسقط العائلة في فخ الديون

يؤكد خبراء علم الاجتماع أن الإفراط في تدليل الأطفال وإطلاق العنان لرغباتهم يوقع الأسرة في فخ الديون. وتتجاهل بعض الأسر تعليم الصغار ثقافة الادخار والاستهلاك بحدود ما يجعلها تلجأ إلى التداين في مختلف المناسبات. وقد يدفع كثرة المال والرفاهية ببعض الأبناء في بعض الأحيان إلى الانتحار، لأنهم تعودوا أن يطلبوا فيُطاعوا، وهذه تربية فاسدة، وأول ضحاياها الولد أو البنت.

القاهرة – أصبحت الكثير من الأسر في المجتمعات العربية تستقبل المناسبات الموسمية مثل الأعياد والمدارس بحالة من القلق والتوتر الزائد عن الحد نتيجة الشعور بالعجز عن تلبية احتياجات ومتطلبات الأبناء التي تكون عديدة وقد تفوق القدرات المالية للأبوين، في حين تتجاهل بعض الأسر تعليم الصغار ثقافة الادخار والاستهلاك بحدود.

لا تمانع بعض الأسر في اللجوء إلى الاستدانة والاقتراض لتلبية متطلبات الأبناء، المهم ألا يشعر الطفل بأنه يعيش الحرمان، ما يؤسس لثقافة النهم الاستهلاكي عند الأبناء، باعتبار أن الأبوين لديهما خلل في التربية ولا يستطيعان إدارة أمورهما الاقتصادية، وكثيرا ما ينعكس ذلك على شخصية الصغار بأن يكونوا مدللين وأحيانا متمردين.

وقال أحمد الطيب شيخ الأزهر في تصريحات إعلامية قبل أيام إن الخطر داهم على الأسرة عندما تفرط في التبذير والإسراف والسفه دون إدراك لتبعات هذه السلوكيات على الاستقرار العائلي ونفسية الأبناء، لأن الصغار يرثون ثقافة الادخار والإنفاق العقلاني من آبائهم، والعكس صحيح، ومع غياب القدوة يتربى النشء على السفه.

الصغار يرثون ثقافة الادخار والإنفاق العقلاني من آبائهم، والعكس صحيح، ومع غياب القدوة يتربى النشء على السفه

واعتادت بعض الأسر العربية عدم التركيز على تربية أولادها تعلم المسؤولية بدليل أن هناك أبناء في شريحة معينة من كثرة المال والرفاهية يريدون أن يفعلوا كل شيء، حتى وصل الأمر بهم في بعض الأحيان إلى الانتحار، لأنهم تعودوا أن يطلبوا فيُطاعوا، وهذه التربية فاسدة، وأول ضحاياها الولد أو البنت.

واضطرت منال محمد، وهي أم مصرية لثلاثة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة، أن تستدين من زميلاتها في العمل لشراء ملابس المدرسة والجامعة لأولادها، وتمسك كل منهم بالذهاب إلى أشهر المولات التجارية للتعرف على أحدث الملابس وعندما أبلغتهم بعدم كفاية المال هددوها بالبقاء في المنزل ورفض الذهاب إلى المدرسة والجامعة.

وقالت الأم لـ”العرب” إن الأسرة لا تدرك وهي تدلل أولادها منذ الصغر وتقدم لهم كل ما يحتاجونه من مستلزمات، أنها بذلك تصنع أبناء متمردين على الحياة الاقتصادية للعائلة، فلا يراعون الظروف مستقبلا عند تعرض الأبوين لضائقة مالية، ولا يهتمون بالحالة النفسية لهما، ويهتمون بأنفسهم فقط، وهذا خطأ فادح في أسلوب التربية.

ورغم كون الأم متعلمة، لكنها لم تستطع في بداية حياتها أن تتحكم في عاطفتها وفضّلت أن يعيش أولادها حياة الرفاهية، لكن مطالبهم صارت عبئا نفسيا عليها، وهي أزمة يتشارك فيها الأب الذي يترك لزوجته غالبا طريقة الإنفاق ولا يتدخل في تحجيم طلبات الأبناء التي تفوق قدرات الأسرة، والنتيجة التمرد والابتزاز العاطفي للأبوين.

ويمكن البناء على هذه الحالة أن النهم الاستهلاكي عند الأبناء يعكس الخلل الواضح في التربية عند الكثير من الأسر، بالتوازي مع وجود ثقافة عند الآباء بأن الظروف المادية لا يجب أن تنعكس على متطلبات وطموحات أولادهم، وهو تفكير خاطئ، لأنه يفترض أن تكون الحياة السوية والمتماسكة لأي عائلة قائمة على التشارك وتحمل المسؤولية المشتركة بين الكبير والصغير.

وإذا ساير الآباء أولادهم في كل شيء، فإنهم سيكونون فاقدين للحد الأدنى من ثقافة تحمل المسؤولية إذا تعرض الأب أو الأم، أو العائل بمعنى أصح، لأزمة مالية أو صحية، ما قد يعرض الأسرة برمتها لمخاطر كثيرة، بينها انحراف سلوكيات الأبناء وتمردهم على العائلة بحكم أنهم تعودوا على أن يحصلوا على ما يريدون، بغض النظر عن الظروف ومدى مواءمتها.

ورأى محمد هاني استشاري العلاقة الأسرية والطب النفسي للصغار أن النهم الاستهلاكي عند الأبناء يكون عبر مسارين، الأول تدليل الأطفال وتلبية جميع احتياجاتهم ويكبروا على أن المال ليس معضلة، بل هو أساس كل العلاقات والقيم والوجاهة، والثاني وجود أبوين مسرفين بطبيعتهما ولا يعرفان الحد الأدنى عن ثقافة الادخار والتحكم في المصروفات.

وأضاف لـ”العرب” أن الأبناء بطبيعتهم يرثون سلوكيات الآباء، خاصة عندما لا يكون لديهم الوعي الكافي بحسن التصرف في إدارة الموارد المالية وعمليات الشراء والإنفاق، وكثيرا ما يضيع الأب والأم بين عواطفهما ورغبتهما في عدم حرمان الابن من طلباته، وتحدث المشكلة عندما لا تكون هناك تربية توازن بين عدم الحرمان وتجنب المبالغة في تلبية رغبات الصغار.

محمد هاني: النهم الاستهلاكي عند الأبناء يكون عبر مسارين
محمد هاني: النهم الاستهلاكي عند الأبناء يكون عبر مسارين

ويرى متخصصون في شؤون التربية وتقويم السلوك أنه لا يجب على الأب أن يضع الأم في مواجهة مع أولادها بشأن المصروف وعمليات الشراء للأبناء، لأن عاطفتها تؤثر على تصرفاتها، وتعطيهم ببذخ، ما يتطلب تدخلا مستمرا من الأب لكبح جماحهم حتى لا يكونوا فريسة للتدليل الذي يقودهم إلى الانحراف وطغيان المادة لديهم على أي قيم إنسانية ومجتمعية أخرى.

وأزمة بعض الأسر أنها تسقط في فخ الاعتقاد بأن شراء محبة الأبناء تكون بتوفير كل احتياجاتهم الشخصية مهما كانت تفوق القدرات المالية للأسرة، وهذا أسلوب ينعكس سلبا على علاقة الأولاد بالأبوين إذا حدثت أزمة مالية، باعتبار أن شرط المحبة غير موجود، وبالتبعية تتحول القيمة المادية إلى العامل الرئيسي الذي يربط الآباء بالأبناء عاطفيا.

وغالبا ما تطغى القيمة المادية عند الأبناء بجعل المال هدفا أساسيا في حياتهم، عندما لا يتم تعليمهم من أين يأتي وكيف يتطلب جهدا يستدعي إنفاقه بشكل صحيح، ما يخلق أجيالا تعاني الأنانية وحب الذات والشهرة والوجاهة ولو كانت من أسرة بسيطة.

وكثيرا ما يرث الابن سلوكيات الإنفاق المفرط من الأسرة نفسها بشراء الآباء مستلزمات قد تفوق قدراتهم، لمجرد أن يكونوا مثل غيرهم، دون وضع حساب للفوارق المادية بين طبقة وأخرى، لأن هناك غيابا واضحا لثقافة ترتيب الأولويات عند الإنفاق بين الزوجين، وتختل معايير الإنفاق والأولويات أيضا عند الأبناء ولا يكون لديهم الحد الأدنى من ثقافة الادخار وعقلانية الصرف.

وقال هاني إن جائحة كورونا برهنت على ضرورة أن يكون الادخار أولوية عند الأسرة ليكون سهلا عليها مواجهة صعوبات وتقلبات المستقبل، وصار حتما تحويل هذا السلوك إلى ثقافة عائلية يتدرب عليها الأطفال ليكبروا على تحمل المسؤولية وتوفير المال وتوجيه الإنفاق للضروريات فقط وتعريفهم الفارق بين ترشيد الاستهلاك والبخل.

ويعتقد متخصصون أن نشر هذه الثقافة يتطلب قدرا من الوعي المجتمعي، بحيث يتم إدراج مفاهيم الاستهلاك والإنفاق والترشيد والادخار في المناهج الدراسية العربية ليدرسها الأطفال منذ الصغر ويكبروا عليها وتكون هذه المعايير حاكمة لعلاقاتهم مع الأسرة والأصدقاء والمعارف، بحيث يكتسبون قيما إنسانية تساعدهم لأن يكونوا أسوياء وبعيدين عن القيم المادية.

21