المسرح المصري يفتح نافذة على "حرملك" القهر العائلي

"حريم النار" دراما نسائية حافلة بالصراعات والعشق الدموي، تقدّم معالجة فنية جريئة لعائلة الكاتب الإسباني غارسيا لوركا المكونة من نساء محرومات من الحرية.
الاثنين 2019/12/30
مجتمع الآهات المحبوسة

اعتمدت مسرحية “حريم النار”، المعروضة حاليا في القاهرة، على الممثلات النساء فقط، في تجربة فنية مثيرة، سعت إلى خلخلة منظومة القيم البالية في الجنوب المصري، ونقد الذكورية المجتمعية، انطلاقا من معالجة عصرية جريئة لمسرحية كتبها الإسباني لوركا في ثلاثينات القرن الماضي.

يعد اتكاء المسرح المصري الحديث على نصوص عالمية ظاهرة مميزة انتشرت كثيرا خلال الآونة الأخيرة، بسبب ندرة وجود نصوص محلية بالمستوى المأمول من جانب المسرحيين الجدد، ويبقى المعيار في نجاح هذه المسرحيات المأخوذة عن كلاسيكيات قديمة هو مدى ملاءمة النص الأصلي لمعطيات الواقع الراهن، وكيفية تقديم المعالجة الجديدة بطريقة مبتكرة مغايرة نابعة من البيئة المحلية.

وفي هذا الإطار، أطلقت بالقاهرة مسرحية “حريم النار” المأخوذة عن مسرحية “بيت برناردا ألبا” للشاعر والكاتب الإسباني غارسيا لوركا، بصياغة مصرية صميمة، ولهجة صعيدية، واتسع العرض النسوي الخالص لقضايا ساخنة مشحونة بالصراعات.

وفّقت المسرحية، من إعداد شاذلي فرح وإخراج محمد مكي وديكور محمد سعد وأزياء شيماء محمود وموسيقى محمد حسني واستعراضات ميزو، في انتقاء نص “بيت برنارد ألبا” إلى أبعد الحدود، فثمة تقارب كبير بين نساء لوركا المعزولات والمقهورات والسجينات بفعل الفاشية والحرب الأهلية الإسبانية في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وبين “حريم” العرض المسرحي المصري، المحبوسات خلف أسوار التقاليد والموروثات الخاطئة في قرى الصعيد.

وسعى العرض المصري إلى الانتصار للمرأة بتعرية قضاياها وكشف أزماتها دون مواربة وتوجيه صرخة مدوية في وجه المجتمع، وأعلى العرض من شأن المرأة بشكل عملي بقصر الأداء التمثيلي على مجموعة من النساء هنّ الفنانات: عايدة فهمي، عبير لطفي، منال زكي، نشوى إسماعيل، أميرة كامل، كريستين عاطف ونسرين يوسف، اللاّتي أجدن في المباراة التمثيلية بأداء طبيعي، وانفعالات حقيقية بمستوى الأحداث المتصاعدة ولهجة صعيدية غير متكلفة.

وعلى الرغم من وجود ما يخّص الرجل في المسرحية بشكل محوري، فإنه لم يظهر في العرض نهائيا الرجلان الوحيدان “المركزيان” اللذان جرى الحكي عنهما والدوران حولهما، وهما: رب الأسرة (سقف البيت، عمود النجع)، الذي انطلق العرض من لحظة موته وتشييع جنازته وإقامة عزاء تاريخي له بالمنزل، والشاب “أحمد علي” (الشبح الزئبقي)، الذي تنافست بعض نساء البيت في عشقه أو لأجل الزواج منه، واتضح أنه يخدعهنّ جميعا مستغلًّا ضعفهنّ ووحدتهنّ لعدم وجود “سند” لديهنّ.

مؤشرات الخضوع

 معالجة عصرية جريئة
التمرد على سجن الحريم

رسم لوركا في “بيت برناردا ألبا” مؤشرات الذلّ والقهر والخضوع لنسائه في العهد الاستبدادي الفاشي للدكتاتور فرانكو، حيث جرى البطش بالنساء، واضطررن في أحوال كثيرة إلى الاحتجاز الإجباري في البيوت كسجينات، إلى درجة أن ربة المنزل قالت لبناتها حال موت زوجها في بداية مسرحيته “لن يدخل من أبواب هذا البيت ونوافذه شيء، حتى هواء الطريق”، فارضة عليهنّ العتمة والعزلة والحرمان من الحرية، لولا طيف الشاب الذي بدأ يتسلّل إليهنّ من الخارج ليزلزل العشق أركان القلعة.

على نحو مشابه في “حريم النار” فتحت صراعات العشق الدامي بين نساء “الدوّار الصعيدي” نافذة النار على “حرملك” العائلة، التي كانت محكومة بالقهر من جانب الأب المتسلّط، وحاولت الأم “فتحية شلقم” مواصلة الأسلوب ذاته بعد وفاة رجلها الذي كان يذيقها كافة أشكال الهوان إلى درجة ضربها بالكرباج، لكنها لم تكن بالقوة ذاتها إزاء بناتها.

ولم تنجح في تحصين بيتها بالجبروت والطغيان “ممنوع النظر إلى الشارع من خلف النوافذ”، فبدأت النيران تلتهم البيت وشخصياته النسائية واحدة تلو الأخرى، حتى أصبن بالجنون، فكلهنّ غير مهيئات للحياة السوية والاختيار والاستقلال، وذلك بفعل تربية أبوية بطريركية قاسية تكرّس لأجل أن تظل المرأة لا قيمة لها دون الرجل.

طعن العرض المصري في هذه الموروثات الراسخة الخاطئة، التي تكاد تحظى بالقداسة في البيئة الصعيدية المغلقة، ولا تزال تؤثر رواسبها في المجتمع العصري إلى يومنا هذا، وتطرّق بجرأة إلى تداعيات هذا القهر والكبت على النساء المحرومات من حقوقهنّ، فقد يقود ذلك إلى الانحراف السلوكي كما حدث للابنة الصغرى “قوت القلوب” التي سعت إلى خطف خطيب شقيقتها أحمد علي بإغرائه بجسدها وممارسة الحب المحرّم معه في الخفاء بدم بارد.

وشكّل العشق واجهة للصراع النسائي للتنافس على قلب الفتى الوسيم أحمد علي أو حتى جسده، ولعبت الوشاية والنميمة والتلصّص من جانب “وردانة” خادمة الأمّ دورا في فضح هذه الأسرار وتعرية الجميع أمام الأمّ وأمام بعضهنّ البعض، فكانت النار التي أمسكت بالحريم، وأحرقت كل الرواسخ والأمور المستقرة التي اتضحت هشاشتها وانجلى كذبها.

ولم يكن العشق غاية نهائية لهذه الصراعات، وإنما جاء مدخلا لصراعات درامية عديدة، قوامها الغيرة والحقد لأسباب مختلفة، منها: عدم عدالة الأب في توزيع الميراث، والجمال الأنثوي الفطري، الذي له دور في تعزيز “ثمن” المرأة كسلعة مرغوبة وجسد مشتهى، في مجتمع لا يرى في المرأة عقلا وروحا.

ومضات في الظلام

نوافذ الضوء والعشق لا تكفي للتحرر
نوافذ الضوء والعشق لا تكفي للتحرر

إلى جانب نجاح عرض “حريم النار” في تمرير رسائله النسوية والاجتماعية على نحو تلقائي انسيابي، كومضات متوهجة في الظلام الحالك، من خلال دراما محبوكة بعناية وسيناريو موجز دون ثرثرة، فقد امتدت عناصر الإجادة والتفوّق إلى سائر مفردات العملية المسرحية، من إخراج وسينوغرافيا وأداء تمثيلي وإضاءة وموسيقى وغيرها.

واصطحب العرض المتفرّجين إلى رحلة بدت حقيقية في جنبات البيت الصعيدي القائم على مفردات البيئة وسعف النخيل، والمعزول تماما عن الفضاء الخارجي، إلاّ عبر مجموعة من النوافذ المحرّمة التي يتسلّل منها الضوء والعشق والأنباء المهربة وحكايات الرجل الشبح أحمد علي، ورسمت مراسم الحداد الأبدي والالتزام بالملابس السوداء لسبع سنوات بعد غياب الأب ظلالا بالغة الأثر في المشهد العام المأساوي الأسود.

في مثل هذا الطقس المتناغم، شكلت إضاءة الفوانيس والشموع، وموسيقى الوتريات والنايات، والآهات والتنهدات المُتصاعدة من الصدور الموجوعة، إضافات درامية إلى الأداء التمثيلي الصوتي والتعبيري والحركي، فلم تكن أيّ مفردة من مفردات العلبة المسرحية مجرد خلفية أو إطار، وإنما جاءت العناصر كلها جوهرية متلاحمة في صياغة المشهد وتنامي الأحداث إلى نهاية العرض.

نجح عرض “حريم النار” كذلك في تقديم إطلالة رشيقة على بعض الفنون الشعبية والفلكلورية المعروفة في الصعيد، كتراث فن العديد في رثاء الموتى “العدّودة”، وغناء الفلاّحات في أثناء جني المحاصيل الزراعية، إلى جانب إبراز مهارات المرأة في الطهو والتطريز والأعمال المنزلية المختلفة، على نحو جاء تلقائيا غير متكلّف كسائر مكوّنات العمل الناضج.

أداء تمثيلي نسوي مقنع
أداء تمثيلي نسوي مقنع

 

17