المستشرقون الصينيون قادمون

يبدو مدهشا أن تضع الصين الثقافةَ والمعرفة على رأس قاطرتها الخاصة بمبادرة الحزام والطريق، التي يراد لها أن تصل بالصين إلى العالم، بعيدا عن منطق القوة والسلاح وليّ الأذرع. وهي المبادرة التي تعيد إحياء طريق الحرير القديم، والذي كان يعبر آسيا وأوروبا. لتكون بذلك المبادرة الأكبر على مستوى التاريخ، سواء في ما يخص البنيات التي يفترض إطلاقها في إطارها أو من حيث حجم الاستثمارات المعبأة والتي تقتضيها مشاريع المبادرة.
ولعل الاهتمام بالمكون الثقافي ليس جديدا على مستوى الصين. إذ أن احترام ثقافة الآخر والبحث عنها والبحث فيها يشكل مكونا تاريخيا يطبع هوية البلد. ولعل ذلك ما يميز حركة الاستشراق الصيني الذي اختار طريق القراءة العاشقة للثقافة العربية والإسلامية، الباحثة عن مناطق النور داخلها، وذلك بشكل معاكس للاستشراق الغربي، الذي تختلط داخله النيات السيئة بالنيات الحسنة، ودوافع معرفة العالم العربي بهدف توفير الظروف المناسبة للاستعمار السلس الذي لا يستغني في نهاية المطاف عن قوة السلاح، بالرغبة في التعرف على هذا العالم المدهش والغامض.
وإن كان خبير كبير عارف بخبايا الاستشراق الغربي، وهو إدوارد سعيد يقر بأنه لا يوجد ما قد يسمى استشراقا موضوعيا أو إيجابيا، باعتبار أن كل ما يفعل وكل ما يقال عن أنه موضوعي له ارتباط بالمصلحة فقط.
بل إن تصورات إدوراد سعيد ستجد أصداءها الخاصة داخل الصين نفسها، وذلك على مستوى بلورة مدرسة استشراقية صينية، تنتصر، على مستوى أدواتها وطرقها في التحليل، للعالم الثالث وللشرق، ضد هيمنة التصورات الاستعمارية. وهو ما تم بشكل أساس، كما تشير إلى ذلك الباحثة الصينية يونغ زانغ، من خلال الباحثين الطلبة الصينيين بالولايات المتحدة الأميركية، وعلى رأسهم الباحث زهان كوان، الذي كان قد نشر العديد من الأبحاث العلمية في هذا الإطار، ومن بينها دراسته “الآخرون في أعين الأوروبيين والأميركيين”، بالإضافة إلى بحثه الهام “الأنا والآخر، حول استشراق إدوارد سعيد”.
وأجد شخصيا أن تنازل المستشرقين الصينيين عن أسمائهم الشخصية لصالح اختيار أسماء عربية يشكل العنوان الكبير لهذه الحركة الاستشراقية، كتعبير عن التماهي مع الثقافة العربية. ولا يهم الأمر فقط المستشرقين الباحثين في الثقافة العربية، بل جرت العادة أن يحمل أي طالب صيني اختار دراسة اللغة
العربية اسما عربيا موازيا لاسمه الصيني.
وبخلاف الاستشراق الغربي الذي وضع أعينه على الثقافة العربية بشكل متأخر، لا يبدو حضور اللغة العربية والاهتمام بها في الصين أمرا جديدا. إذ أن تعرف الصينيين على اللغة العربية يعود إلى ما قبل ألفي سنة، كما يؤكد ذلك زينع رونغ، مع إيفاد تشانغ تشيان لعدد من الرسل إلى بلاد العرب، وكانت الصين حينها تحت حكم أسرة هانغ الملكية، بينما ستنتشر اللغة العربية بشكل أكبر في الصين مع دخول الإسلام. وهو الأمر الذي يصفه بشكل دقيق، على سبيل المثال، ابن بطوطة في رحلته “تحفة النظار في غرائب الأبصار”، حيث كتب “في كل مدينة من مدن الصين حي خاص للمسلمين ينفردون فيه بسكناهم، ولهم فيها مساجد لإقامة الجمعة وسواها، وهم معظمون ومحترمون”.
ومع تزايد المسلمين، سيتم إطلاق نظام التعليم المسجدي الخاص باللغة العربية، وكان وراء الدعوة إلى ذلك، حسب زينع رونغ، العالم الإسلامي المشهور خو دينغتشو، الذي عاش في القرن السادس عشر. وذلك قبل أن يتم تطوير تعليم اللغات الأجنبية وعلى رأسها اللغة العربية في العصر الحديث، بفضل عدد من كبار المستعربين، وعلى رأسهم عبدالرحمن نا تشونغ، الذي يعتبر أول من علم اللغة العربية داخل الجامعات الصينية، و محمد ماكين، الذي كان قد ترجم القرآن الكريم إلى الصينية، وأيضا حوار كونفوشيوس إلى العربية.
أما تعدد القوميات داخل الصين، ومن بينها القوميات المسلمة، فستكون وراء حركة استشراقية داخلية، كما تسميها الباحثة الفرنسية إليزابيت أليس. وهي الحركة التي تسعى إلى فهم ودراسة ثقافات الأقليات المنتمية إلى المجتمع الصيني.
في سنة ألف وثلاثمئة وأربع وعشرين، خرج رجل من مدينة طنجة المغربية، وكان في الثانية والعشرين من عمره، قاصدا الحج في رحلة كان يُقدر لها أن تستمر حوالي سبعة أشهر، فعاد إلى بلده بعد حوالي ثلاثين سنة. ولم يكن هذا الرجل سوى الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي انتهت به رحلته إلى الصين سنة ألف وثلاثمئة وست وأربعين، قبل أن يعود إلى المغرب. وأما رحلته فتعتبر الأطول قبل أن يظهر النقل البخاري.
ويصف ابن بطوطة في نص رحلته المذهلة “تحفة النظار في غرائب الأبصار”، المدن والأماكن الصينية خلال العهد الوسيط بدقة وبتفاصيلها.
وسيغادر ابن بطوطة الصين بعد اشتعال بعض الاضطرابات، آملا في العودة إليها، غير أنه لم يكتب له ذلك. بينما ستتأخر الرحلة الثانية التي قام بها رحالة عربي آخر إلى الصين، والتي تم تدوينها في نهاية الستينات من القرن الماضي. وقد قامت بها فتاة سودانية، اسمها خديجة صفوت. وقد صدرت الرحلة، تحت عنوان “رحلة فتاة صينية إلى الصين”، عن مركز ارتياد الأفاق.
بعد مرور حوالي سبعة قرون على رحلة ابن بطوطة، يبدو أن الصينيين تفرغوا لإعادة بناء ثقافتهم واقتصادهم، بينما تفرغ العرب لتهديم ما بنوه سابقا. وحدها حكاية مذهلة لرحالة مذهل ما زالت تذكرنا بتجربة خارقة على مستوى اللقاء الإنساني.