المثقفون السعوديون: مبادرة التفرغ الثقافي غامضة وبلا ملامح

ما هو رأي المثقفين السعوديين في مبادرة الوزارة الخاصة بالتفرغ الثقافي، وما هي الآلية التي يجب أن تتخذها في اختيار المبدعين؟ وهل ستكون الاختيارات عادلة وتنمّ عن فهم ومعرفة بالمنجز الثقافي وأهميته، أم أن الوزارة ستقع -شأنها شأن مؤسسات أخرى- في فخ المحاباة ومؤاخذات القبلية، ثم ما هي طبيعة اللائحة التنظيمية لهذه المبادرة، ومن سيضعها؟ وكيف سيتجاوزون فيها أخطاء اللوائح التنظيمية التي وقعت فيها الأندية الأدبية، والتي عانى منها المثقفون خلال العقود السابقة؟ كل هذه الأسئلة تناقشها “العرب” في هذا الاستطلاع مع نخبة من المثقفين السعوديين.
مع إطلاق وزارة الثقافة السعودية لمبادرتها في مارس الماضي، أفاد وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبدالله آل سعود بأن الجميع يعمل على منح المثقف والمبدع -سواء كان مستقلا أو بالاشتراك مع غيره- تفرغا ثقافيا لمدة محددة، بغرض إنجاز مشروع ثقافي في أحد المجالات الثقافية التي تحددها اللائحة التنظيمية.
وأكد الوزير على أن الوزارة من خلال هذه المبادرة تدعم الحركة الثقافية والإبداعية في مجالات الآداب والفنون والدراسات الإنسانية وغيرها، إضافة إلى رعاية المبدع السعودي بمنحه الفرصة الكاملة لمواصلة الإنتاج والتميز.
وكانت الوزارة قد أوضحت في وقت سابق بأنها تعمل مع الجهات ذات العلاقة على إصدار ومواءمة الأنظمة بما يحقق أهداف الوزارة الرئيسية.
تفرّغ غير مشروط
يذهب بعض المثقفين السعوديين إلى أن المبادرة مهمة، لكن الوقت ما زال مبكرا للحديث عن المرئيات وإصدار الأحكام، حيث إنها لا تزال غامضة.
تقول الناقدة لمياء باعشن في ردها على أسئلة “العرب” إن “المحور مهم، لكن المبادرة ما زالت غامضة. وكما يتضح من المحور فإنه يبحث عن أجوبة أكثر من طرح آراء، وكأننا نستبق اكتمالها بتوقعاتنا ومطالبنا ومخاوفنا. حتى عندما تحدثت الوزارة المسؤولة عن المبادرة فإنها لم تعط أي تفاصيل أو رؤية شمولية للفكرة”.
وتتحفظ باعشن عن إبداء الرأي في هذا الأمر حتى تظهر له ملامح، وتقول “مع احترامي لوجهة النظر، لكني أظن أن الوزارة هي صاحبة الشأن، ولا بد أن لديها تصورا ما، وقد تركت لنا مسمّى لجنين في طور التكوين الأولي، وهو وضع غير قابل للتقييم أو الإضافة أو حتى التوقع”.
وفي الشأن نفسه يقول القاص جبير المليحان “وزارة الثقافة للثقافة، وليست لطيف المثقفين الواسع، والثقافة تختصّ -هنا في رأيي- بحقول الإبداع الأدبي والفني؛ أي أن الثقافة عملٌ إبداعي محض. والأديب أو الفنان حرّ في تشكيل إبداعه، لذلك فإن مبادرة التفرغ من حقوقه التي تساعده على الإبداع، بعيدا عن روابط العمل التي تأكل وقته وتنهكه. ولذا أتوقع أن تعلن مسودات نظام هذه المبادرة ليناقش الأدباء والفنانون نظامها، وضوابط هذا النظام بما يعزز من دور الإبداع فقط، بعيدا عن الشخصنة والشللية. وانطلاقا من تأصيل المحتوى الحداثي وتعميقه، ونشره في المجتمع”.
ويضيف المليحان “إن تهيئة الطاقم الإداري لسير هذه المبادرة ونجاحها يتطلب اختيار العناصر الإدارية المستوعبة للحراك الثقافي الأدبي والفني في بلادنا، بعيدا عن شراك البيروقراطية وصناديق الروتين”.
ويؤكد المليحان أنه على وزارة الثقافة ـوهي الراعي والأداة لهذه المبادرةـ أن تكرّم الإبداع الذي حلم المبدعون بدعمه طويلا. ويقول “عليها أن تنطلق من رؤى المبدعين، ومن تطلعاتهم دون أن تقيدهم بمنة التفرغ، وكأنها الأب وهم الأولاد؛ فالمبدع ابن البلد، وهو أدرى بمشروعه، وليس للوزارة غير دعمه عبر تفرغه لإنجاز جزء من حلمه المتواصل”.
يعدّ الروائي أحمد الدويحي مبادرة التفرغ الثقافي نقلة نوعية كان بانتظارها المثقفون من سنوات بعيدة، حيث تأتي لتؤكد على مدى اهتمام الوزارة بالمبدعين في كافة الأجناس الإبداعية والأدبية والفنية، وذلك بعد عقود مضنية من عدم الاكتراث، ويؤكد الدوحي على أن التفرغ مؤشر مهمّ يدل على حضارة الأمم.
يقول “قد سبقتنا إليها دول أقل منا إمكانات بشرية واقتصادية، وقد كنا نحتاج إلى مثل هذه المبادرة في المملكة منذ زمن طويل، فالعمل في غير الحقل الثقافي بالنسبة للمبدع يعد مضيعة للوقت وإهدارا للطاقة، وغالبا ما تكون الوظيفة للمثقف عائقا عن ممارسة دوره”.
ويضيف “أذكر أني كنت أكتب عند إشارة المرور في طريقي إلى العمل غير الثقافي، فلا بد أن توفي بشروط الوظيفة لكي لا تجد نفسك بلا عمل، وقد كنت أحتفظ بأوراقي إلى جواري لكي أكتب ما يأتي منسجما مع مشروع سياقي الكتابيّ، والوظائف وأماكن العمل غير الثقافية ترفض المبدع وتعتبره مجرد تكملة عدد، وقد ينظر إليه نظرة غير دقيقة وغير منصفة، ويتم التشديد عليه بالذات في مسألة الحضور والغياب والتأخير والسفر”.
ويختتم حديثه بالقول “خطوة وزارة الثقافة يجب أن تحسم جدلا وهاجسا كنا نحلم به من سنوات طويلة، وتجرعنا مرارات وخيبات الوظيفة خارج الفضاء الثقافي، ونصرف ما نحصل عليه من مردود مالي على منجزنا الثقافي، ولكن لا بد أيضاَ أن يكون هذا التفرغ محسوبا بدقة، ولا يمنح إلا لأصحاب المشاريع الثقافية الناضجة، ولا يخضع لأي محسوبية”.
ويتفق الناقد مبارك الخالدي مع رأي الدويحي في أن التفريغ مطلب ثقافي هام، ويرى أنه لا يختلف اثنان على أهميته والحاجة الملحة إليه. ويتوقع أن العمل في قطاعه لن يكون سهلا، ولن ينال رضا البعض في المشهد الثقافي. لهذا يذهب الخالدي إلى أن أداءه ينبغي أن يتميز بدقة الأنظمة والضوابط وآليات المتابعة.
ويضيف “إن إعداد اللائحة يأتي بعد التحديد الدقيق للمجالات، إذ لا أتصور وضع لائحة قبل رسم حدود ما يراد منها تنظيمه. وهي اللائحة الأم للضوابط والشروط العامة، تتولد منها لوائح فرعية حسب المجالات، لأن اختلاف المجالات يترتب عليه اختلاف الأنظمة والضوابط، فشروط التفرغ لإنجاز مشروع سينمائي مثلا، ستختلف إلى حدّ ما عن نظيرتها للتفرغ لإنجاز دراسة في أحد العلوم الإنسانية. وشروط التفرغ في الخارج، ستختلف في بعض جوانبها عن شروط تفرغ الداخل”.
المزاج الإبداعي
في هذا الشأن تقول الشاعرة هدى الدغفق “كنت قد كتبت في أكثر من صحيفة سعودية خلال السبع سنوات الفائتة عن موضوع التفرغ الإبداعي، كما كتبت إلى وزارة الثقافة والإعلام، وأرفقت مع خطابي شرحا لآلية التفرغ الإبداعي المقترحة، وربما كان ما سنقترحه حاليا عشوائيا، خاصة وأن المبادرة ما زالت لغزا غامضا فلم تنشر بنودها وشروطها وأنظمتها وإمكاناتها، ولم تظهر بعد أيّ توضيحات للعلن عن تلك المبادرة، ولذلك فنحن نتحدث عن شيء غامض، ونحاول أن نتخيل له ملامح وجهه المناسبة”.
وتضيف الدغفق “إن المبادرة بذاتها مهمة وستنجح إذا ما ابتعدت عن مثلبة العلاقات الشخصية، ولم تأكل لحمتها الوساطات، وكانت من حق من يستحق فحسب. وتبعا لذلك فإنني أرى أنه من الضروري ألّا يتدخل المسؤولون في الجهات الحكومية في أنظمة التفرغ نفسها، أقصد تلك التي ترتبط بلوائح الأنظمة الوظيفية بسبب جهل معظمهم للعملية الإبداعية نفسها ولاحتياجاتها”.
المبادرة في حد ذاتها مهمة وستنجح إذا ما ابتعدت عن مثلبة العلاقات الشخصية، ولم تأكل لحمتها الوساطات
وتقترح الدغفق عدم فرض قوانين صارمة على الترشح للتفرغ حسب التقرير الوظيفي، وعدم طلب تصور مفصل عن المشروع الإبداعي، لأنه -بحسب رأيها- لو تغير ستتم محاسبة المتفرع إبداعيا إذا خالف مشروعه لتصوراته التي تتفق مع المبادرة عند إنجازها من بعدُ. كما اقترحت الدغفق أن تقاس الفرص المتاحة بحسب تواجد المبدعين في المحافظة، وليس بحسب مساحة المحافظة التي يحصل ترشح المبدعين منها.
تقول الدغفق “من الأجدى لإنجاح المبادرة أن يكون المبدع قد بدأ في الاشتغال على مشروعه الإبداعي مثلا. ولعل الأكثر فائدة في البداية أن تتم إتاحة فرصة التفرغ لمن يمتلك تجربة سابقة في مجاله الإبداعي، أي سبق وأن طبع ونشر”.
وتختتم الدغفق حديثها بالقول “يجدر بالمبادرة أن تقدر المزاج الإبداعي الذي قد يتعرض لأنماط من التغير، فيحتاج إلى محطات توقف ليتجدد وليعاود الانطلاق، فلا تحاول
المبادرة الضغط على المبدع مراعية ظروفه الإبداعية التي لا يملك حق استحضارها وتوجيهها بمدة محددة، فهي ليست زرا تقنيا تظهر استجابته بعد الأوامر مباشرة. فالمرونة في التعامل مع مثل هذه الحالات المزاجية الإبداعية ضرورة واحتياج إنساني بحت”.