شعراء ينكرون أن يكون لهم آباء

الشعراء الشباب في السعودية لم يعيشوا في جلباب شعراء الثمانينات بل كانوا أبناء تجاربهم الشخصية التي لا علاقة لها بسلالة الجغرافيا المحلية.
الأربعاء 2020/03/25
أجيال داخل أجيال (لوحة للفنان طلال معلا)

لا شك بأن لشعراء الستينات والسبعينات والثمانينات في السعودية المبادرة الأولى في تشكّل الحداثة في المملكة، تلك المرحلة التي وقف فيها المثقفون حماةً للتنوير. ولكن بعد انتهاء المعركة، هل يتفق الشعراء الشباب مع هذه النظرة؟ “العرب” حاولت في هذا الاستطلاع الوقوف على رأي شعراء الجيل الجديد في السعودية ممّن نبتت قصائدهم على ضفاف الألفية الجديدة.

يؤكد غالبية شعراء الجيل الجديد في السعودية بأنهم لم يتأثروا بالمشهد الشعري السعودي في الستينات والسبعينات والثمانيات، فعلاقتهم بنصوص محمد العلي ومحمد الثبيتي وعبدالله الصيخان وفوزية أبوخالد وعلي الدميني ومحمد جبر الحربي وخديجة العمري وغيرهم، كانت مجرد علاقة تاريخية للمرحلة، وأن تأثرهم الحقيقي جاء عبر مطالعاتهم الشخصية للشعراء العالميين والشعراء العرب بمعزل عن الجغرافيا.

فإلى أي مدى يمكن القول إن شعراء ذلك الجيل الذي شكّل اللبنة الأولى للحداثة الشعرية في السعودية كانوا واهمين في اعتقادهم بأنهم آباء مؤثرون على الأجيال الشعرية التالية عليهم، وبأنهم عرّابو الثقافة وصانعو الحدث والأدلّاء على تفاصيل المرحلة؟ فقد أخذت تجارب الألفية الماضية في السعودية حقها من النشر والحضور والكتابة. فهل يجب أن يتركوا منابرهم لجيل شعري جديد، لديه أجوبته وأسئلته واشتغالاته الجديدة المتناسبة مع زمنه؟

مشهد متغير

بثينة اليتيم: لكل جيل اشتغالاته وهمومه على النص
بثينة اليتيم: لكل جيل اشتغالاته وهمومه على النص

يقول الشاعر فيصل الرحيل “الأجيال الشعرية السابقة قدمت الكثير. وما دمنا في مرحلة تشكيل هذا الجيل فنحن كما يقول برنارد شارتر أشبه ما نكون بأقزام جثمت على أكتاف عمالقة لذلك نعتقد أننا نمتلك نظرة أعمق من نظرتهم. هذا ليس تصغيرًا من شأننا بتاتًا، إنما لكي لا يتمكن منا هذا الوهم ونعمل على خلق ملامح هذا الجيل بشكل أفضل. ربما ما يميز هذا الجيل أننا انتقلنا من دائرة القضايا القومية التي تحد منا إلى دائرة أشمل.. الإنسانية”.

وبدوره يعلّق الشاعر علي عاشور “تجربة الثمانينات في السعودية مهمة جدا لكونها نقلت فكرها إلى ضفاف جمهورها الذي تريده، وإن جاء بعضه متأخرا. أي كان التعاطي الفكري والشعري للمختلف أكثر بروزا ربما من الآن، وأعتقد أن الفترة التاريخية تلك مهمة بكل تحولاتها. غير أنها مرحلة، والمراحل تتابع. لا يجوز لنا تنحيتهم لأن وجود كل وجه ضروري. غير أن على جيل الثمانينات، وأيضا التسعينات أن يتعامل مع التجارب الحديثة بحس اليوم الشعري لا الأمس الثمانيني. للأسف أرى أن كثيرا من ذاك الجيل ما زال يعيش على أن تلك الفترة هي الذروة والمرحلة الذهبية وهذا وهم. كما أن الكثير من الأجيال الجديدة يبحث عن مظلة أبوية من ذاك الجيل أو يعطيهم هالة فوق شعرية وهذا وهم آخر”.

وفي السياق نفسه يؤكد الشاعر محمد عبدالله علوان بأنه ليس مؤمناً بمسألة استبدال جيل ثقافي بجيل آخر أو تنحي جيل لمصلحة جيل آخر، ويرى أن “هذا التقسيم في مجمله غير دقيق أو أنه ينطلق من نظرة شمولية قاسية تماثل نظرة المرء للحياة بصفتها مراحل كما هي حياة الإنسان التي يكون بها المرء قوياً في حالة شبابه ومتقهقراً في شيخوخته أو أن كل ما هو جديد هو يحمل تراكماً يستوعب به ما هو قبله وهذا قد لا ينطبق على الإبداع بالتحديد”.

يقول “هذا التصنيف يعطي انطباعاً بأن لكل جيل عمرا افتراضيا وأن كل جيل يجب عليه أن يعتلي منصة الجيل الذي قبله وكأن العمل الإبداعي في هذا السياق منشغل بما هو خارجه. ثم إن الكتابة من أجل الكتابة هي أسمى من أي شيء آخر يأتي تباعاً أو عرضاً. ومن الأشياء غير المريحة أن ينشغل المبدع بالظهور أو ينتج فناً وهو ينظر إليه كوسيلة لنيل مكسب، المكسب ليس عيباً عموماً لكن لا يجب أن يكون هو الغاية. وقد يبدو هذا كلاماً مثالياً أو ميالاً لذلك، لكن هذا ما يجب أن يكون، أو على الأقل ما أحسه، أو ما أسعى إليه”.

فيصل الرحيل: الأجيال الشعرية السابقة قدمت الكثير
فيصل الرحيل: الأجيال الشعرية السابقة قدمت الكثير 

وترى الشاعرة رباب آل إسماعيل أن المشهد الشعري الشبابي السعودي الجديد -رغم أن الشعر هو حالة من الفردنة والذاتية- يعكس محاولات الشباب السعودي في الخروج عن التنميط، إضافة للأبويات المُتصلة بكل جوانب حياته، ومُقاربة فضاءات أكثر عمقًا واتساعًا؛ لذلك هو مشهد له مفرداته، لغته وصوره الخاصة الآتية من عزلة الشاعر، وعالمه الذاتي المنفرد والوحيد. مما يجعله مختلفًا عن أي مشهد شعري آخر يكون صوت الحياة وما فيها من حب وطبيعة وحرية أكثر حضورًا منها في المشهد الشعري السعودي، والذي سيتغير حتمًا وفق مناخات الكتابة المختلفة. المشهد الشعري الشبابي السعودي الحديث، هو ابن الثمانينات، فترة الصمت التي عاش فيها نتائج خبرات لم يُقاربها، لكنه عاش نتائجها وغموضها وقلق أسئلتها.

خارج الجلباب

يعبّر الشاعر إبراهيم حسن عن رأيه في القضية بالقول “بالنسبة إلي لا أرى التجارب الشعرية بهذا المنظور، وكأننا في طابور طويل أمام ساحة الشعر، من ينتهي دوره يغادر فقط. الفن الحقيقي، سوف يبقى، ولا زال لدى الجميع ما يقولونه، ومن يريد أن يجد صوته من هذا الجيل أو من غيره، فالأسئلة لا تتوقف، والاشتغالات لا تنتهي، والأجوبة سوف تبقى مطارَدةً حتى يستحيل كل شيء إلى عدم”.

ويضيف “وأما بخصوص جيل الثمانينات -وأنا لا أؤمن بالتصنيف والتجييل- ولد في رحم المعمعة، حين كان الصراع محتدماً بين التيار المتشدد الذي يرى في كل جديد ريبة، وبين أنصار الحداثة، ما أنتج معركة لا ناقة للفن فيها ولا جمل، وركب الموجة من ركبها من أنصاف الشعراء أو المتشاعرين، ليأخذوا مكاناً مائزاً بين أقرانهم الذين كانوا شعراء حقيقيين وفق مقاييس مرحلتهم”.

ويرى الشاعر ماجد الثبيتي أن الشعراء الشباب لم يعيشوا في جلباب شعراء الثمانينات، بل كانوا أبناء تجاربهم الشخصية التي لا علاقة لها بسلالة الجغرافيا المحلية. يقول “على المستوى الشخصي، تجربتي كانت وليدة مناخات نصية مختلفة تماماً، ولا تتقاطع مع تجربة شعراء الثمانينات. وفي الغالب من الشعراء الشباب أصحاب تجارب النص الجديد، هم أبناء شعراء مختلفين (الشعر المترجم دون تحديد تجربة ما، السينما الأجنبية، الفضاء الإلكتروني المتعدد، الوسائط الحديثة يومياً) أكثر منهم تأثراً بتجربة شعراء الثمانينات المختلفة والمحترمة جداً دون تقليل أو تجاهل”.

رباب آل إسماعيل: المشهد الشعري الشبابي السعودي الحديث هو ابن الثمانينات
رباب آل إسماعيل: المشهد الشعري الشبابي السعودي الحديث هو ابن الثمانينات

من جانبها تشير الشاعرة بثينة اليتيم إلى أن المشهد الشعريّ الشبابيّ ليس إلا امتدادًا لمشهد شعري لشعراء كانوا شبابًا في زمن سابق، مع فارق معطيات بيئة وأحداث كل جيل وتأثيراتها على نصوصه الشعرية فلكل جيل شبابه المتوجّس. وتشير في حديثها إلى أن هذا الجيل منكوب بتبعيته للهويات المتصارعة، فهو منكوب بالصمت حيال القضايا السياسية لاعتبارات عدة.

وترى اليتيم أن “هذا الجيل الشبابي حمل خيبة هذا الأمر وخذلانه للقضايا برمتها وخجله من صمته، إلى تصريف آخر ووجهة أخرى، واشتغالات أكثر ذاتية في النص، فصار يحلّق في سماء أناه، ويهبط على أرضها، ويلتقي ذاته حين لا يكونها، ويرصدها في أنا أخرى ثم في برهة صحو يضيق بها فنراه قاسيا جدا في وصفيّاته لها”.

وتضيف “التمازج بين الجيلين (القديم والجديد) واستيعاب الحالة الشعرية للجيل الحديث من قبل من سبقهم يخلق حركة ثقافية أكثر انفتاحاً وتطوراً وتنوعاً، لا يمكن أن يكون لدينا هذا النوع من العقوق تجاه جيل سابق كان ولا زال يثري حاضره الأدبي، أو أن نخلق ساحة نزال يبقى فيها من ينتصر، فلكل جيل اشتغالاته وهمومه على النص وليس بالضرورة أن يكون الجيل الحديث على طرف نقيض من الجيل السابق، المسألة ليست تعاقبية بقدر ما هي بلورة لرؤى فكرية جديدة”.

أما الشاعر محمد السعدي فيقول “ككاتب قصيدة نثر، لا أعرف أثراً يذكر لشعراء الثمانينات فيها، بل ربما كان تأثير شعراء عرب يكتبون قصيدة النثر هو اللافت والمؤثر، ومع حبي لشعر الثمانينات، وما واكبه من حراك نقدي مهم فأثره ربما يظهر في من لا يزال يقتفي أثر قصائد الثبيتي أو غيره، والحقيقة أن المرحلة التي أنتجت ما سمّي بتيار الحداثة قد انطوت تماماً، بل ربما بعد سنوات سنجدها تدرس كمرحلة كلاسيكية أقلّه في الشعر، وذا ليس انتقاصاً منها، ولكن، اليوم كل شيء اختلف، وأصبح لزاماً علينا كشعراء مواصلة البحث عن شعر يناسب عالمنا الجديد والمختلف”.

15