الكِتاب وعلل تداوله

الكتاب المغربي لا يحظى ببنيات على مستوى التوزيع يمكن أن تفتح أمامه الأسواق العربية والدولية.
السبت 2020/02/22
توزيع الكتب المغربية يعاني من التقصير

يُصدر الكاتب، إذا كان محظوظا، عمله لدى دار نشر كبرى بمدينة في المركز، دون أن يمنح ذلك بالضرورة الرواج للعمل الذي يظل في أحسن الحالات رهين رفوف مكتبات مدينة أو مدينتين. قد يكتفي الكاتب بطبع كتابه بمدينة قصية. وفي هذه الحالة، يكون النسيان هو مآل الكِتاب. قد يختار الكاتب نشر كتابه على نفقته، وبذلك يتخلى الكاتب عن وضعه الاعتباري ليصير محترفا لترويج عمله. قد يفضل الكاتب البحثَ عن رواج أفضل عبر نشر عمله خارج حدود بلده، غير أن ضريبة ذلك تكمن، في الكثير من الأحيان، في حرمان قراء بلده من تصفح كتابه.

قد تختلف الحالات، لكن ما يجمعها هو مشكل التوزيع والتداول الذي يقتل، في نهاية المطاف، أي عمل مهما علت قيمته. إذ لا وجود لأي عمل من دون قارئه.

وإذا كان هذا الوضع يهم، بدرجات متفاوتة، الكثير من الدول العربية، بما فيها التي راكمت تجربة هامة على مستوى النشر والتوزيع، يظل المغرب النموذج الذي يختزل خصوصيات وامتدادات هذا الوضع. إذ أن بنية التوزيع بالبلد تمثل المجالَ الأضعفَ في حلقة صناعة الكتاب.

ولعل هذا الوضع يرتبط بتأخر ظهور بنيات التوزيع وبطبيعة شبكتها وبمحدودية احترافية جانب منها وأيضا بمستوى تغطيتها المحدود للتراب الوطني. وارتباطا بذلك، سينتظر المغرب حلول القرن العشرين ليرى ظهور وحداته الخاصة بالتوزيع. ويبدو مفارقا أن يعجز البلد، بعد أكثر من قرن، عن مراكمة أكثر من أربع مؤسسات للتوزيع. وهو الأمر الذي لا يساير، في جميع الأحوال، الدينامية التي يعرفها قطاع النشر بالبلد والتزايد المستمر لإصداراته.

كما نجد من المفارق أن ثلاث مؤسسات من ضمن الأربع هي فروع لمؤسسات فرنسية، من ضمنها مؤسسة بريستاليس. وهي المؤسسة التي راكمت طيلة تاريخها الطويل الكثير من الفضائح، ومن ذلك تورطها، في ثمانينات القرن الماضي، في تهريب ورق الصحف، بشكل سري، إلى كوبا، لطباعة جريدة غرانا، لسان الحزب الشيوعي الكوبي، ثُم فضيحة اكتشاف أكثر من خمسة آلاف قطعة سلاح داخل أحد مخازنها. ولا تتوقف فضائح الشركة هنا، إذ أعلنت قبل سنتين عن قرب إفلاسها وهي التي كانت تحجم عن التصريح بأرقام معاملاتها. وكانت تلك طريقتها لابتزاز الدولة الفرنسية التي وجدت نفسها مجبرة على دعم الشركة تجنبا لبوار الصحافة الفرنسية. وذلك اعتبارا لكون بريستاليس تضمن توزيع حوالي ثمانين في المئة من جرائد ومجلات البلد.

يحدث ذلك، في اللحظة التي يُحجم الرأسمال الوطني المغربي عن دخول مغامرة الاستثمار في مجال التوزيع، تاركا المكان فارغا لديمومة “الحماية الثقافية” الفرنسية، ولرهن توزيع الكتاب المغربي بمزاج أجنبي، قد يكون آخر همه هو تيسير تداول الإنتاج الثقافي المغربي، خصوصا المكتوب منه باللغة العربية أو بالأمازيغية.

والنتيجة أن هذا الوضع، سيفتح الباب أم سيادة التوزيع غير المهني وغير المهيكل، والذي يعتمد، بشكل خاص، على الإمكانيات الذاتية، سواء من طرف الكُتاب أنفسهم أو عددٍ من دور النشر.

كما أن هذا الوضع تزداد حدته، خصوصا مع الحضور الكبير للأعمال الصادرة على نفقة مؤلفيها، والتي تشغل أكثر من ثلث إنتاج البلد. إذ يتحول الكاتب، الذي من المفروض أن تنتهي وظيفته عند صدور الكتاب، إلى مُدَبر لمبيعاته ومرجوعاته، بشكل يمس وضعه الاعتباري.

في اللحظة التي لا يستطيع الكتاب المغربي الخروج من هذه الدوامة، يستمر الكتاب العربي والأجنبي في اقتحام السوق المغربية. وهو الأمر الذي تؤكده أرقام مكتب الصرف المغربي. إذ أن قيمة مجموع واردات المغرب، في مجال الكتاب، تضاعف بعشرين مرة مجمل قيمة صادراته.

وقد لا يبدو مفاجئا أن تشكل كل من فرنسا وإسبانيا المصدر الأساس لواردات المغرب على مستوى الكتاب. إذ أن من عادة البلدان المستعمِرة أن تُبقي على كل الخيوط، بما فيها الثقافية، التي تربطها بالبلدان المستعمَرة سابقا.

في مقابل ذلك، تُقاسم لبنان البلدين السابقين كعكعةَ سوق الكتاب المغربي في جانبه العربي. ولا يبدو ذلك غريبا. إذ أن إصدارات لبنان تشكل المصدر الرئيس لمجمل الدول العربية، بما فيها مصر، المعروفة بتقاليدها العريقة على مستوى صناعة الكتاب.

ويعود جانب من هذا الحضور إلى المكانة التي تشغلها لبنان على مستوى صناعة الكتاب العربي، بفضل تراكم تجربتها التي تعود إلى أربعة قرون، وأيضا لما يُشكلُه إنتاجها من تنافسية على مستوى الأثمان، وللرواج الذي يعرفه الكتاب الديني الذي يشكل جانبا هاما من هذا الإنتاج.

وخلافا لذلك، لا يحظى الكتاب المغربي ببنيات على مستوى التوزيع يمكن أن تفتح أمامه الأسواق العربية والدولية. ولعله بذلك يضيع أكثر من سوق مفترَضة. ومن ذلك أفريقيا على سبيل المثال. إذ تنحصر أرقام صادرات المغرب إلى مجمل بلدان القارة في حوالي العشرة ملايين دولار. وإن كان تحقيق هذا الرقم يتم بفضل لجوء عدد من الدول الأفريقية إلى المطابع المغربية، لطبع كتبها المدرسية، أو الكتب الدينية، ومنها أساسا القرآن. وذلك في اللحظة التي لا تتجاوز حصة الكتاب الثقافي الصفرَ في المئة من هذه الصادرات.

ولعل هذا التباين الكبير بين واردات المغرب وصادراته على مستوى الكتاب يكشف عن حقيقتين مفارقتين. تهم الأولى استمرارَ جانب من المركزية الثقافية، التي تجعل من بلدان كلبنان أو مصر أو فرنسا مصنعةً للكتاب ومن المغرب قارئا له. وذلك بالرغم من كل التحولات التي عرفتها هذه العلاقة، ومن ذلك الحضور الخاص للأعمال المغربية على مستوى المشرق أو الغرب.

 أما الحقيقة الثانية فتربط بدلالات الحضور الكبير للكتاب العربي والأجنبي المستورد. وبمعنى أدق، إن استمرار هذا الحضور يَفترض وجودَ سوق للقراءة بالمغرب لا ينتبه إليها الخطاب الذي يتحدث، من موقع الانطباع، عن وجود أزمة قراءة بالبلد. وهو حضور قد يعني أيضا، وهذا هو الأمر الأخطر، وجودَ قُراء لا يبحثون بالضرورة عمّا ينتجه الكتاب المغاربة!

15