الكتابة للصغار لا يثريها التعريب وقمقم التراث

كيف يجتذب الأدب المراهقين ويدفعهم إلى الاهتمام بالثقافة الجادة؟
الثلاثاء 2020/12/15
التكنولوجيا الحديثة سرقت الأطفال من الأدب

رغم أهميتها البالغة في الحياة الثقافية فإن الكتابة للطفل والناشئة في العالم العربي ليست بالمستوى المرجو ولا الكم الكافي، حيث يعاني أدب الطفل من عدة صعوبات تبدأ من تطور القراء الصغار وانفتاحهم التكنولوجي واللغوي، وابتعاد الكتّاب عن هذا الجنس الأدبي، وصعوبات النشر وغيرها، لكن هناك من أوجد حلولا مبتكرة.

ماذا يقرأ المراهقون والناشئة العرب، وكيف يمكن اجتذابهم عبر الكتب والمجلات إلى دائرة الثقافة الجادة؟ سؤال يفرض ذاته بقوة على المشهد، فبعد رحيل “رجل المستحيل” نبيل فاروق في مصر منذ أيام، ومن قبله محمود سالم، وأحمد خالد توفيق، انتهت مرحلة سلاسل “المغامرين الخمسة” و“الشياطين الـ13” و”ملف المستقبل” وغيرها من المغامرات والقصص البوليسية وأدبيات الجاسوسية بشكلها التقليدي وخيالاتها المستوردة والمُعَرّبة.

اعتمد عدد كبير من الكتاب على النهل من التعريب، والاقتباس من القصص الأجنبية التي استطاعت أن توجد لها مكانا في البيئة العربية، وتجذب خيالات الكتاب، واليوم لم يعد هناك اهتمام بالنهل أو الاقتباس، ما أوجد وضعا ثقافيا صعبا أمام الناشئة، وجعلهم يتجهون بأنفسهم إلى حيث يريدون، فقد تراجعت الكثير من حواجز اللغة، وتكسرت موانع الحدود، عقب الطفرة التي أحدثتها شبكة الإنترنت.

من هم ورثة عقول القرّاء الصغار حاليا ومستقبلا؟ وما سبل تجديد الرسائل الموجّهة إلى الطفل العصري الذكي، الرافض للوصاية والتلقين والخيال الثابت المحدود والأفكار الجاهزة الوافدة من الغرب أو المستدعاة من قمقم التراث على ألسنة الطيور والحيوانات؟

 ندرة المبدعين

تجديد محتوى أدب الطفل يجب أن يتم بعيدا عن تعريب الأفكار الغريبة عن مجتمعاتنا وبمنأى عن اجترار التراث

الكتابة للأطفال والمراهقين هي الأكثر حساسية، ويتهيبها كبار الأدباء حول العالم، ويقاربونها بحذر بالغ لفرط خطورتها وأهميتها، وهذا ما يعمق أزمتها من الوجهة النوعية بندرة مبدعيها ورموزها من طراز، كامل كيلاني وجاذبية صدقي وعبدالتواب يوسف ويعقوب الشاروني.

تتعدد وجوه الأزمة، وعلى رأسها تطور عقلية الطفل بشكل مذهل بعد ثورة المعلومات والاتصالات، وتضاؤل حظوظ النشر الورقي الموجه للأطفال والناشئة من كتب ومجلات؛ أمام موجات الفنون والتقنيات العصرية: الكوميكس، الرسوم المتحركة، الدراما المصوّرة في المسلسلات والأفلام، وإبهار التطبيقات الرقمية ومواقع الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي، التي استولت على انشغالات الصغار والكبار.

مع رحيل الروّاد والمؤسسين، وندرة المؤلفين والناشرين الحريصين على التخصص في الكتابة للطفل ومواجهة العقبات المضنية بجهد كبير وخطاب متطور مغاير.

 تكاد الساحة المصرية والعربية تبدو فارغة من المشروعات الكتابية الكبرى للطفل، التي تأخذ طابعا شعبيّا أو قوميّا مثلما كان الحال في الماضي غير البعيد، حيث السلاسل الدورية العملاقة التي أحدثت تأثيرا كبيرا لدى ملايين المراهقين، وإن كان بعضها مقتبسا من أعمال أجنبية، مثل سلسلة “المغامرين الخمسة”، التي جرى تمصيرها عن سلسلة لندنية كانت تصدر باسم مشابه.

ولا يكاد يقوم بهذا الدور الجماهيري الواسع على مستوى المنشورات الورقية غير كُتّاب روايات الجريمة والرعب والإثارة من مؤلفي “البيست سيلرز”، من أمثال أحمد مراد ورفاقه.

والمثير أن القصص التي يكتبها أبناء هذا الجيل لم يكن يُقصد بكتابتها في الأساس التوجه إلى المراهقين والصغار، وليست فيها الخصائص المعروفة لأدب الأطفال والناشئة، لكنها لبساطتها وخفتها تلمّست قرّاءها من هذه الفئة العمرية لدى طلاب المدارس والجامعات، مستغلة خلوّ المشهد من الكتابة التخصصية، ما زاد من تعميق أزمة الكتابة للأطفال والمراهقين، بتعميم مضامين استهلاكية غير ملائمة لبناء الوعي والمعرفة.

ويشمل الأدب الموجه إلى الأطفال والناشئة، وفق تعريفاته الأكاديمية؛ القصص والقصائد وسائر الكتب والمجلات المؤلفة خصيصا للصغار، والمصنفة عمليّا بحسب الفئة أو عمر القارئ.

وتعود أصول هذه الأعمال إلى أغاني التراث وحكاياته الشفاهية، ومع ظهور الطباعة حمل أدب الأطفال مضامين أخلاقية ودينية.

ووصل أدب الطفل إلى ذروة نضجه وتخصصه في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع انتشار القصص والأدبيات الكلاسيكية للصغار، التي تحمل قيما تربوية راقية وجماليات فنية تشويقية ممتعة في آن، وتحولت مجموعة كبيرة منها إلى حلقات مصورة وأفلام ومسلسلات.

وثمة أمر آخر يجعل الوضع الحالي كارثيّا بخصوص انتشار أدب الأطفال وتأثيره، هو تراجع دور المدرسة النظامية، وغياب حصص القراءة والمطالعة والمكتبة، وقد صار الحديث عن عودة هذه الأنشطة وهْما مستحيل التحقق، خصوصا بعد الاتجاه العام إلى تحويل العملية التعليمية برمّتها إلى صيغة إلكترونية، ليس للكتاب الورقي دور محوري فيها، حتى على صعيد المواد العلمية ذاتها.

تغيير المناخ

عزوف المراهقين على الكتابة
عزوف المراهقين على الكتابة

وسط هذه المصاعب والمطبات كلها، وغيرها، هناك متمسكون بالأمل من الكتّاب المصريين والعرب المعاصرين، الحريصين إلى يومنا هذا على مخاطبة الأطفال والناشئة بقصصهم وحكاياتهم وقصائدهم في كتب ومجلات مطبوعة، والوصول بأدب الأطفال تدريجيّا إلى منعطف جديد، حيث يتغير المناخ الثقافي والاجتماعي المحيط كله، وليس فقط الخطاب الموجّه إلى الطفل.

من بين هؤلاء، القاصّة المصرية نجلاء علام، التي تكتب للأطفال وأشرفت على الإدارة العامة لثقافة الطفل، ولجنة ثقافة الطفل، وترأست هيئة تحرير مجلة “قطر الندى” للأطفال.

وتؤكد علام لـ”العرب”، أنه على أدب الطفل والناشئة أن يستفيد من وسائل الميديا والتكنولوجيا الحديثة ويطور من أدواته، ويبحث عن خطاب ثقافي وأدبي ومعرفي يتواءم مع طفل اليوم، فقد “رهن هذا الأدب نفسه فترات طويلة حبيسا للتراث والتخفي وراء الحيوانات والطيور، كما اقترن بالتوجيه المباشر وكأنه نصوص مدرسية، ولا بد من تخطي هذه المرحلة”.

إن الطفل بطبيعته محب للمعرفة وشغوف بالقراءة إذا أتيح له مناخ مشجع عليها، وإذا استطعنا تقديم كتاب أو مجلة تحترم ذائقته وعقله وعصره.

وتضيف علام “في هذا الصدد، يمكن اقتراح مشروع متكامل يقوم على تهيئة المناخ المناسب للقراءة، من خلال إيجاد محفزات للأسرة بكاملها وليس الطفل وحده، فالطفل يتأثر تأثرا بالغا باختيارات والديه، وأيضا تيسير سبل الحصول على الكتاب من خلال المكتبات العامة أو قصور الثقافة، وإتاحة الكتب والمجلات بأسعار تناسب القوة الشرائية المحدودة حاليا، وإعادة التفكير في الأماكن المناسبة لتوزيع كتب ومجلات الأطفال، لتشمل تجمعات الأسرة مثل المدارس والنوادي”.

وازدادت أهمية الإنترنت بوصفها من أهم أدوات غرس القيم المؤثرة في تحديد اتجاهات الطفل الحياتية واللازمة لبناء شخصيته، حيث أضحت ساحة للتفاعلات والتجاذبات بين القيم الموجودة في المجتمع والقيم الجديدة التي ظهرت نتيجة لظهور أشكال ومنافذ كثيرة للتواصل بحرية، ولذا يجب على القائمين على مجال أدب الطفل أن يعملوا على تطوير أدواتهم والاستفادة من وسائل التواصل الحديثة للوصول إلى الطفل أينما كان.

ويبدو من الضروري تحويل الأعمال الورقية الكلاسيكية الذائعة إلى أفلام ومسلسلات رسوم متحركة، وإلى كوميكس يخاطب طفل اليوم، فهذا الأمر يصل الماضي بالحاضر من جانب، ويحرض على القراءة من جانب آخر.

وتشير الكاتبة أمل جمال، التي قدّمت أعمالا للأطفال وأشرفت على أمانة مؤتمرات الطفل بالهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، إلى أن الصغار والناشئة في عصرنا الحالي يبحثون عن الإثارة والأكشن والمغامرات والعوالم الخفية التي تحقق الدهشة، في كل شيء، وليس فقط في القراءة.

وتؤكد لـ”العرب”، أنه على الأدب ألّا يتجاهل رغبة هذه الشريحة من القراء، فمن خلال الكتابة الشيقة والمثيرة يمكن طرح مضامين مثمرة ومفيدة، تتسق مع خصائص أدب الأطفال برسائله الهادفة.

وتلفت الكاتبة المصرية، إلى أن ذلك يجب أن يقترن بتطوير آليات الكتابة ذاتها، والابتعاد عن المحاولات الفجّة في مزج الحقائق والخرافات، وتصوير البشر كملائكة أو كشياطين، ويجب أن يتم تجديد المحتوى بعيدا عن تعريب الأفكار الغريبة عن مجتمعاتنا، وبمنأى عن اجترار التراث، مع ضرورة الجمع بين العمق والبساطة، واختيار قوالب جاذبة، والحرص على إدماج القصص مع الرسوم جنبا إلى جنب، فنحن نعيش عصر الصورة.

الصغار والناشئة يبحثون عن الإثارة والأكشن والمغامرات والعوالم الخفية
الصغاريبحثون عن الإثارة والأكشن والمغامرات والعوالم الخفية

 

 
14