الكاتب المغربي أحمد المديني يرسم خارطة جديدة للسرد العربي

ناقد يعبر من النظرية إلى النص متتبّعا "السرد بين الكتابة والأهواء".
الأربعاء 2020/01/22
تصور آخر لأراضي السرد العربي (لوحة للفنان محمد خدة)

خط السرد العربي الحديث تراكما نوعيا هاما يخوّل للنقاد اليوم دراسته وتتبّع تطوره والطرق التي انتهجها وأطوار نموه وخفوته وغيرها. ومن هنا جاءت مساهمة الكاتب والناقد المغربي أحمد المديني الذي يحاول في كتابه الجديد تقديم خارطة جديدة للسرد المغربي والعربي.

الكاتب والروائي والناقد المغربي أحمد المديني تجربة أدبية ممتدة لعقود من الزمن، لذا فهو في كل كتاب جديد يصر على تقديم الإضافة وما يراه مفيدا للسرد العربي. ومؤخّرا، قدم المديني كتابه الجديد “السّرد بين الكتابة والأهواء من النظرية إلى النص”، الذي يعتبره امتدادا لأعمال نقدية سابقة.

قبل مؤلفه الحالي، سبق للمديني أن أثرى مكتبة النقد العربي بثلاثية “تحت شمس النص” في 2002 و”تحولات النوع في الرواية العربية” في 2014 و”كتابة أخرى.. سرد مختلف” سنة 2016. وفي وكتابه الأخير يرصد الكاتب تطور المتن السردي العربي وتحولاته النوعية مشرقاً ومغرباً في ضوء مفاهيم وأدوات تحليل مستجدة في حقله.

منهجية مغايرة

يتطرق الكتاب، الصادر حديثاً عن “دار الأمان” بالرباط، وكما يظهر من عنوانه، إلى ثلاث قضايا هي “السرد” و”الكتابة” و”الأهواء”، وهي مصطلحات ومفاهيم تتحدد أكثر، عند الكاتب، من خلال المواضيع والنصوص المميزة والمدروسة، مغرباً ومشرقاً، التي يرسم أغلبها عنده “خارطة مصغرة لسرد عربي مجدّد نوعاً ومتحوّل رؤية”.

ثمرة تطور مفاهيمي وتركيبي عند المديني
ثمرة تطور مفاهيمي وتركيبي عند المديني

الكتاب بمثابة ثمرة تطور مفاهيمي وتركيبي عند المديني في حقل الدراسات النظرية والنقدية، والتي دشنها بمؤلف “فن القصة القصيرة بالمغرب: في النشأة والتطور والاتجاهات” في العام 1980، متبوعا بكتاب “في الأدب المغربي المعاصر” ثم “أسئلة الإبداع في الأدب العربي المعاصر” في العام 1985. وما يميز المؤلف الأخير أنه يرسم خارطة مصغرة لسرد عربي مجدد كلغة حاكية ومحاكية واصفة ومشخصة لحياة الإنسان ومعيشه وسلوكه المتغير بتغير حياته.

وتوسع المديني في مقاربته للنظريات البنيوية والسيميائية والشعرية الحديثة، ابتداء من نهاية الستينات من القرن الماضي إلى اليوم، ليغذي المفاهيم التي اشتغل عليها في قراءة الرواية والقصة كونهما يندمجان بالضرورة في السرد التخييلي رغم أن الشخوص آتية من محاكاة الواقع، ولهذا يؤكد الكاتب أن الرواية جنس أدبي إشكالي مثل أبطالها. وعند حديثه عن الرواية فهو يقاربها من منظور تجددها وتطورها ونجاحها في إعادة رسم الواقع وصراع الإنسان في خضمّه.

خصّص المديني في القسم الأول من الكتاب، بابا لتمثلات الحداثة في السرد التخييلي العربي، حيث فهم تحديث الأدب في المغرب، ويتكلم هنا عن النثر بتطويره ليخرج في القالب القصصي الحديث، قصة قصيرة ورواية بنتيجة التأثر والتقليد والتعلم التدريجي، مستدركا أن الرواد لم يجرؤوا على الانفصال عن الوقائع الحرفية لعيشهم ولا استوعبوا القصة بكونها انتقالا من صعيد واقع خام معطى، إلى آخر محتمل وبشخصيات وأحداث ممكنة الوقوع يسهم الخيال في صنعها.

وعلى مستوى العالم العربي، لم يحتج إبداعه وتمثيله السردي التخييلي منذ القرن التاسع عشر إلى استعمال مصطلح الحداثة، بل تم استخدام مصطلحات النهضة والتنوير والإصلاح والتجديد والتحديث، لينتعش الكلام عن الحداثة في القرن العشرين في لبنان، وتنتقل العدوى بعد ذلك إلى المغرب ولو بطريقة منقطعة عن السياق وانفصال عن الشروط التاريخية التي ولدت في حضنها.

وقسم الناقد كتابه إلى قسمين، الأول وضع بمقدمات نظرية وأبحاث تدرس مجمل التجربة السردية المغربية والعربية. أما القسم الثاني فيخصصه للبحث في مضمار القراءة والتحليل، وذلك للإسهام في تأصيل مختلف للكتابة السردية وبناء حوار آخر خلاق حول التجربة. وفي الختام وضع المديني شهادات عن الكاتبَين المغربيَّين محمد شكري ومحمد زفزاف، لإضاءة جوانب من مسارهما الأدبي والحياتي كمحاولة للفهم والتوضيح.

وانكب المديني في الكتاب، بقسميه الدراسي والنص التحليلي، على تشخيص وتدقيق الخصائص البنائية الفنية للأعمال المدروسة لقياس درجات نضح وقسمات التجدد والتفتح للسرد التخييلي العربي، بناء على نصوص مفردة لا نموذجية، وهو تحليل للزمن العربي بكل شروخه وهزاته ومحكيات وشخصيات محددة، الشيء الذي أملى تحولات جذرية على الرواية مكسرا أطرها التقليدية لينقلها إلى تعبيرات معقدة وملتوية لغة وأسلوبا وبناء وحبكة وخطابا.

مسارات السرد العربي

عند حديثه عن السرد العربي وتمثلات الحداثة كعنوان كبير، يؤكد المديني أن أي خطاب في الحداثة خارج النص جله ضرب من التكرار المسفّ، لاجترار معان متوفرة سابقا، ولداعي التلقين كما في منابر الفقهاء. ويفضل المديني في تشخيصه القول إننا نعيش حداثة الانفصام التي تجمعها بتلفيق صيغة أصالة/ معاصرة، وهو ما وجده في قسم من الكتابة السردية العربية، بين تمثلاتها وتمثيلاتها لتوفق بين النظر إلى الواقع وصفا وتشخيصا بلا تمييز، وأفق مستشرف، وبين تجاوزه في بناء تخييلي أكثر رحابة.

وفي حديثه عن التجربة الذاتية وتجلياتها في الرواية العربية يرى أن التجربة مكوّن من مكونات هذا الجنس في أدبنا بلغ درجة من الحضور والتمثيل إلى أن صار يعد من تجلياتها الكبرى ويقبل أن نقرأ ونحلل المدونة الروائية العربية بمقتضاه. والسيرة الذاتية هي التمثيل الأهم الأبلغ والأقدر في الرواية العربية على نقل تجربة الفرد وسردية حياته.

التجربة الذاتية وتجلّياتها أحد مكونات الرواية العربية الذي بلغ درجة كبيرة من الحضور والتمثيل في نصوص عديدة

وفي الجانب الروائي المغربي جاءت محاولة سرد تجربة الذات منذ أربعينات القرن الماضي، على درب ما أسماه المديني، كتابة الفطرة والاستكشاف أكثر من أي شيء آخر، فهي مراودة تخص تجربة شخصية كاتبها يعرفها فهي أقرب إليه.

وضرب مثلا بنص “الزاوية” للتهامي الوزاني (1903-1972)، يتحدث فيه صاحبه عن محيطه في مدينة تطوان شمال المغرب، بطريقة وصفية تقريرية ووجدانية. وهناك نص أكثر تطورا في مضمار السيرة الذاتية للرواية المغربية قدمه عبدالمجيد بن جلون في مؤلفه “في الطفولة” وهو نص ناضج صريح ومنسجم مع قواعد هذا النوع السردي.

ويؤكد المديني في كتابه أن رصيد الذات عتبة للرواية وبهذا تستمر الرواية المغربية من خلال عملين؛ الأول “سبعة أبواب” لعبدالكريم غلاب، و”الطيبون” لمبارك ربيع، ثم “الغربة” لعبدالله العروي، رغم اعتباره منتج العروي نصا هجينا في منزلة بين الرواية بناء وشكلا مستعارة من نماذج روائية فرنسية وبين السيرة الذاتية تسرد مسار الكاتب الذي جعلها المعادل الفني لما جاء في كتابه الفكري “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”.

ابتداء من الصفحة 93، دخل الكاتب في مجالسة بعض الكتاب المغاربة الذين التقى بهم المديني وتأثر بصحبتهم، فذكر الأديب عبدالقادر الشاوي، الذي تشكلت شخصيته الأدبية داخل مؤسسة العقاب تلقن فيها أهم ما كوّن ثقافته وعلاقته بالحياة والآخرين، وانتقل للحديث عن مجدّد القصة المغربية أحمد بوزفور وهو الذي اكتسب بين أقرانه في مجاله مكانة مميزة ومستحقة لقيمة نصوصه وانصرافه التام إلى عالم القصة القصيرة.

أحمد المديني: أي خطاب في الحداثة خارج النص جله ضرب من التكرار المسفّ، لاجترار معان متوفرة سابقا
أحمد المديني: أي خطاب في الحداثة خارج النص جله ضرب من التكرار المسفّ، لاجترار معان متوفرة سابقا

واختار المديني بعد ذلك نصوصا مغربية فسلط أضواءه الكاشفة على شعرية الشفوي ومعضلة الواقعي في رواية مبارك ربيع وعوالمها المشبعة بتربة شعبية وبطباع أهلها ومخيال سكانها وزبدة ثقافتهم.

ويرى المديني أن محمد الأشعري انتقل من الشعر إلى الرواية وبينهما كانت القصة مجال إبداع هذا المغربي الذي كان له مشروع تحويل السيرة إلى طريقة كتابة، بحكايات وأناس وعوالم. وعرّج الناقد على رواية “مغاربة” لعبدالكريم الجويطي الذي بقي وفيا لخط انتهجه بشخوصه وأوضاع ومشاعر معينة وموطن عيش بتحدياته وتاريخه وأزماته منذ روايته “ليل الشمس” في العام 1992 إلى “كتيبة الخراب” 2007، ثم رواية “المغاربة”، 2016.

بعد عدد من النصوص المغربية، عبر المديني صحاري وفيافي المنطقة لينزل عند رشاد أبوشاور الروائي والقاص الفلسطيني الذي اتخذ الكلمة التزاما يدافع بها عن قضايا الإنسان وحق وكرامة الوجود رسالة ومذهبا، وجاء بـ”سأرى بعينيك يا حبيبي”، 2012. ثم قفز للحديث عن السرد الروائي للمصري مكاوي سعيد من خلال “تغريدة البجعة” 2007، و”مقتنيات وسط البلد” 2010، مرتكزا على الفهم المبني على عنصري العين والبصيرة في التقاط إحساس البشر بقوة التركيب والحبك ليرسم الملامح ويقتفي الأثر. ومن مصر للسودان ذهب الناقد أحمد المديني لبحث عملية السرد عند حمور زيادة ومجموعته القصصية زائد روايتين، ليقول إن هناك اجتهادا جديرا بالتأمل والدراسة.

14