الطباعة حرام، الطباعة حلال!

تأسيس أول مطبعة عربية بإسطنبول كان بعد عقود عن صدور قرار تحريمها من خلال فتاوى بعض الشيوخ.
السبت 2019/09/21
الطباعة عند العرب تعرضت لعراقيل كثيرة

قبل أن يصير الكِتاب والصحيفة اليومية والمجلة وغيرها من الوثائق المطبوعة جزءا من تفاصيل حياتنا اليومية، كان عليها أن تمرّ أولا عبر أعين الفتاوى التي ظلت تشهرها خلال قرون طويلة، البنية المحافظة ضد كل جديد تَشعر أنه قد يخلخل  نظامها أو يمسّ به.

ولم يكن صدور الفتاوى الخاصة بتحريم الطباعة أمرا محصورا على بلد ما، بل إنه يبدو مشتركا بين العديد من الدول الإسلامية، التي اعتادت أن تخرجَ من بين صفوف علمائها أصوات قوية تحرّم كل ما يُشم فيه رائحة الروم.

ولعل الدولة العثمانية تشكل النموذج الأكبر في هذا الإطار، خصوصا أنه كان يفترض فيها، بحكم موقعها الديني والسياسي خلال اللحظة التاريخية، أن تشكل الممر الأساس بين الثقافات الأوروبية والعربية والإسلامية. غير أنها، ولأكثر من سبب، اختارت أن تكون الحاجز المنيع أمام دخول الطباعة.

في أواخر  القرن السادس عشر، سيصدر السلطان العثماني مولاي بايزيد الثاني قرارا يقضي بتحريم الطباعة على رعاياه المسلمين. غير أنه سيخول، بشكل مفارق لذلك، للأقليات حق إنشاء مطابعها داخل الدولة العثمانية شريطة عدم استعمال الحروف العربية، حيث صارت لليهود والعرب المسيحيين مطابعهم الخاصة. ولن يكون هذا القرار هو الأخير، بل سيليه آخر بعد حوالي عشر سنوات، وهو يعود إلى السلطان مراد الثالث، الذي ظل وفيّا لروح المنع، حيث سيسمح للأوروبيين بتوزيع سلعهم داخل الإمبراطورية العثمانية، مع حصر ذلك على الكتب العلمية واستثناء غيرها، ومنها بشكل خاص الكتب الدينية.

وبذلك، في اللحظة التي ستعيش الطباعة العربية لحظات طويلة من الغياب نتيجة المنع، ستنتعش الكتب المؤلفة باللغات العبرية والأرمنية واللاتينية داخل الإمبراطورية الكبيرة، حيث برزت، على سبيل المثال، كما يشير إلى ذلك الباحث زينو سولودوس في “الموسوعة العبرية”، مجموعة من الأسر اليهودية التي امتهنت الطباعة لفائدة يهود مدينة إسطنبول. ولعل من أهمها أسرة  آل جيرسون، التي جاوز عدد مطبوعاتها الثلاثمئة عنوان، والتي تبقى من أهمها طبعتها الخاصة بالتوراة، مع تفسيره.

أما  دواعي قراري السلطانين العثمانيين بايزيد الثاني ومراد الثالث فتعود إلى أكثر من سبب. ولا ترتبط فقط بهيمنة التوجه الديني المحافظ خلال هذه المرحلة، الذي يمكنه أن يبرّر الأمر بقدسية اللغة العربية.

في كتابه الهام “مملكة الكتاب”، يحرص الباحث العراقي فوزي عبدالرزاق على البحث عن الأسباب الأخرى التي قد تكون وراء القرارين. إذ يعود إلى خصوصيات الطريقة التي استعمل بها الأوروبيون الطباعة منذ اختراعها في علاقتهم مع بلدان العالم الإسلامي، وخاصة مع الأتراك العثمانيين. وهي الطريقة التي قد تكون وراء نفور العثمانيين من الطباعة.  وهو ما يفسّره مؤشران على الأقل.

يتجلّى المؤشر الأولى في كون حركة الإصلاح الديني في أوروبا كانت هي أولى الحركات الدينية التي حظيت بالدعم على مستوى الطباعة في إطار مواجهة الأتراك، حيث تم اعتبار الطباعة من طرف رجال الكنيسة “هبة من السماء ودليلا على تفوق الغرب على قوى  الكفر”، كما تؤكد ذلك الباحثة إليزابيث آيزنشتاين في كتابها “الطباعة عامل التغيير”.

أما الثاني، والذي  يشير إليه فوزي عبدالرزاق، فيكمن في إسهام الطابعين الأوروبيين في تحفظ العثمانيين عن الطباعة، حيث كانت مؤسسة للطباعة بهامبورغ قد أقدمت على إصدار طبعة من القرآن، تحت عنوان “القرآن وهو شرعة الإسلامية محمد ابن عبدالله”، بما يحمل ذلك من أخطاء على مستوى العنوان، والذي يوحي بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن، وهو ما يمسّ بجوهر العقيدة الإسلامية.

أما تأسيس أول مطبعة عربية بإسطنبول فسيتم بعد عقود عند صدور قرار تحريمها. وكان وراءها المجري إبراهيم متفرقة، الذي استطاع استصدار فتوى من شيخ الإسلام، الذي اشترط عدم نشر الكتب الدينية، وأيضا أمرا جديدا من السلطان أحمد الثالث بجواز طباعة الكتب. وكان إبراهيم متفرقة قد أصدر رسالته الشهيرة “وسيلة الطباعة”، التي كرّسها لتبيان أهمية المطبعة على مستوى التغيير والإصلاح.

والأكيد أن تحريم الطباعة لم يكن وصفة محصورة على العثمانيين. إذ أن علماء الأزهر لم يكونوا بمنأى عن الموضوع، حيث أصدر بعضهم فتوى بتحريم طباعة الكتب الشرعية، بدعوى كونها تحرّف العلوم، أو بحكم كون “مواد الطباعة منافية للطهارة، أو بدعوى عدم جواز ضغط آيات الله بالآلات الحديدية، واحتمال وقوع خطأ في طبع القرآن” .

وإلى ذلك ذهبت فتاوى أخرى. ومن بينها فتوى الفقيه المغربي محمد بن إبراهيم السباعي، الذي خط وثيقة سماها “رسالة في الترغيب في المؤلفات الخطية، والتحذير من الكتب المطبوعة، وبيان أنها سبب في تقليل الهمم وهدم حفظ العلم ونسيانه”.  والغالب أن موقف العالم السباعي كان يبدو وحيدا ومحصورا. إذ فتح دخول الطباعة إلى المغرب الباب أمام عدد كبير من العلماء للالتحاق بصناعتها. وهو ما تمَّ، كما يشير إلى ذلك فوزي عبدالرزاق، سواء من خلال اشتغال العلماء بالتصحيح أو التأليف أو النشر.

وبذلك، لم تكن بدايات الطباعة العربية بالمشرق العربي ولا بمغربه، وإنما بالضبط بأوروبا، حيث تعود المحاولات الأولى التي عملت على استعمال الحرف العربي إلى القرن الخامس عشر، مع صدور كتاب “الحج إلى قبر المسيح” لبرنارد دي برينباخ.

وسيفتح انتشارُ المطابع العربية بالعديد من مدن أوروبا، ومنها باريس وروما وليدن ولندن وأوكسفورد، البابَ، سواء أمام طبع العديد من الكتب باللغة العربية، ومن ذلك الإنجيل و”القانون الثاني” لابن سينا و”نزهة المشتاق” للإدريسي، أو أمام إنشاء مطابع عربية من طرف العرب المسيحيين، خصوصا بالشام، ومن ذلك مطبعة قوزحية بلبنان، التي تُعتبر الأولى من نوعها.

في كتابه الهام “بداية الطباعة العربية في إستانبول وبلاد الشام”، يعود الباحث التونسي وحيد قدورة إلى إشارات هامة عن وجود تقنيات مبكرة للطباعة بالعالم الإسلامي، اعتمادا على دراسة مبكرة للباحث النمساوي جوزيف هامير-بوركستال. حيث يقف الباحث عند حديث ابن الأبار في كتابه  “الحلة السيراء” عن أحد كُتاب الأمير عبدالله الذي كان يخط الوثائق الرسمية في بيته، ثم يرسلها إلى من يطبعها.

ولعل هذا المعطى يحتاج كثيرا من البحث لأنه في حالة إثبات حقيقته، يمكن أن يقلب تاريخ الطباعة، ليس فقط على مستوى العالم الإسلامي ولكن  أيضا على مستوى الكون.

15