الصدام بين الأكاديمي والإعلامي يلقي حجرا في المياه الراكدة للمشهد في مصر

أيمن منصور ندا لـ"العرب": دون إعلام يثق به الجمهور أي إصلاح يفقد تأثيره.
الأربعاء 2021/03/17
اختيارات المشاهدين يجب أن تكون المعيار الأهم للبقاء

أثار أيمن منصور ندا أستاذ ورئيس قسم الإذاعة والتلفزيون بجامعة القاهرة قضية شائكة في الإعلام المصري تتعلق بسيطرة وجوه إعلامية بارزة على المشهد الإعلامي رغم وجود نقاط ضعف واضحة في أدائهم، وهو ما فتح الصدام بين الأكاديمي والإعلامي حول أسباب تعثر إصلاح المهنة.

تشهد المنظومة الإعلامية في مصر حاليا جدلا من نوع خاص بعدما دخل أكاديميون على خط المواجهة ضد الوجوه التي تهيمن على الإعلام وتتحكم في مساراته، وكانت أحد أسباب تراجع مصداقيته وتأثيره في الشارع، وسط توقعات بأن الصدام بين الطرفين لن يفضي إلى شيء أمام القصف والقصف المضاد.

وجرى النبش في أزمة الإعلام عبر سلسلة مقالات كتبها الأكاديمي أيمن منصور ندا أستاذ ورئيس قسم الإذاعة والتلفزيون بجامعة القاهرة حول ما وصفه بإعلام النكسات، وتحدث بالاسم عن مذيعين يتصدرون المشهد منذ سنوات وعملوا مع الكثير من الأنظمة المصرية حتى صاروا عبئا على المهنة لاهتمامهم بإرضاء بعض الدوائر.

وتباينت ردود أفعال المذيعين الذين تعرض إليهم الأكاديمي بالنقد أخيرا، فهناك من شن عليه هجوما قاسيا عبر الشاشة ووصفه بالمريض النفسي، مثل نشأت الديهي عضو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ومقدم برامج “بالورقة والقلم” على فضائية “تن”، وآخر قرر مقاضاته، وهو الإعلامي أحمد موسى مقدم البرنامج الرئيسي على قناة “صدى البلد”، فيما حاوره المذيع عمرو أديب على قناة “إم.بي.سي مصر”.

وأحدث قرار كلية الإعلام بجامعة القاهرة باستدعاء الأكاديمي للتحقيق معه جدلا واسعا واستثمرته منصات إعلامية قطرية وتركية للإيحاء بأن تكميم الأفواه وصل لخبراء المهنة، في حين أن التحقيق معه يخص واقعة قديمة تتعلق باتهامه بالاعتداء على وكيل الكلية سابقا في أحد الاجتماعات بالجامعة.

وأكد منصور ندا لـ”العرب” أن استدعاءه للتحقيق لا يرتبط بسلسلة المقالات التي تعرض فيها بالنقد لبعض المذيعين وحال الإعلام في مصر وسخطه على الطريقة التي يدار بها، أو انتقاده للوضع الذي آلت إليه المهنة، وإن كان توقيت التحقيق رآه غريبا لأن الواقعة قديمة.

وقال إن مسؤولين كبارا بجهات هامة في الحكومة تواصلوا معه عقب سلسلة المقالات التي كتبها حول سلبية الأداء الإعلامي، وأبلغوه بعدم الخوف والاطمئنان من عدم الاستهداف أو التربص، وبينهم من دعمه في الكثير مما ذكره، في مؤشر يعكس حجم غضب بعض الجهات الرسمية من طريقة وأسلوب الإعلام وسياسته التحريرية.

وأثار استغراب الأكاديمي أن تأييد بعض المؤسسات الهامة بالدولة للأمراض الإعلامية الموجودة التي ذكرها في سلسلة مقالاته لا ينعكس إيجابيا على تطوير المنظومة، فإذا كان هؤلاء داعمين لما يكتبه فمن هم المؤيدون للوجوه الإعلامية التي تدير المشهد وتتحكم في المنابر وتسببت في تكدير مزاج وعلاقة الناس بالإعلام؟

ويعتقد مراقبون أن القضية التي يتحدث عنها منصور ندا عادلة وتوصيفاته للمشهد الإعلامي واقعية، لكن تبرعه بالدخول في معركة حامية مع مذيعين لهم ثقل وبلوغ الأمر حد الصدام مع كرم جبر رئيس مجلس تنظيم الإعلام، والكتابة عنه بشكل قاس، يوحي بأن الرجل حصل على ضوء أخضر للقيام بالمهمة من جهة ما، فهو في النهاية من أنصار النظام الحاكم.

بعض الإعلاميين يتعاملون بمنطق ملكية الشاشة وأن النقد الموجه إليهم يحمل نوعا من التجاوز بحقهم رغم احتجاج الجمهور ضدهم

ويرى بعض الغاضبين من الأداء الإعلامي عموما أن تغيير المشهد صار ضرورة، وتشريح الأكاديميين المتخصصين للأزمة ووضع حلول لها فرض عين، شريطة أن يكون ذلك بدوافع ذاتية بعيدا عن استخدام شريحة منهم كأداة بيد جهات تجاهد لتصفية حسابات قديمة مع وجوه إعلامية ورؤوس بعينها داخل المنظومة.

ويخشى هؤلاء أن تكون هجمة منصور ندا إحدى أدوات الصراع الدائر بين مذيعين ومسؤولين بهيئات تنظيم الصحافة والإعلام وأسامة هيكل وزير الدولة للإعلام، بحيث يكون بعض الأكاديميين ورقة لترجيح كفة تيار على الآخر، باعتبار أن آراءهم يفترض فيها الاستقلال والحياد والنزاهة والبعد عن التأثر بأي أهواء.

ودافع منصور ندا عن نفسه في حديثه مع “العرب” بتأكيده أن “تكليفه من جهات بعينها لفتح ملف أزمات الإعلام غير صحيح، وكل ما في الأمر أنه شعر بأمانة المسؤولية كأكاديمي يفترض أن يدلي برأيه على أمل وصول صوته لأعلى مؤسسات الدولة وتكون هذه بداية للتركيز والاقتناع بخطورة استمرار الإعلام على نفس الوتيرة”.

وما أغضب الأكاديمي أنه فوجئ بحذف المقال الذي كتبه عن جبر من على صفحته الشخصية بعد نشره بثلاث ساعات، حيث كان ينتقده على تقصيره في القيام بمهامه في ضبط المشهد ورضاه عن طريقة إدارة المنظومة، لكنه لم يوجه أصابع الاتهام لشخصيات بعينها قامت باختراق حسابه.

ووفق كلامه، جرى إبلاغه من مسؤولين بمؤسسة أخبار اليوم الصحافية الحكومية بمنعه من الكتابة على صفحاتها، حيث كان تم التعاقد معه لنشر يوميات إنسانية بشكل شهري، ويرى أن ذلك الموقف ربما يكون ردا سريعا من الصحيفة على مقالاته التي تطرق فيها إلى إعلاميين وشخصيات مؤثرة دخل المنظومة.

وأضاف “للأسف، كان يمكن إحراز هدف قاتل في مرمى الإعلام المعادي للدولة المصرية بمناقشتي علانية في ما تطرقت إليه عن أزمات المهنة، واستضافتي في نفس البرامج التي هاجمت مذيعيها، وفتح حوار حول إصلاح المنظومة، لكن ذلك سمح لقنوات تبث من تركيا وقطر لإحراز الهدف بتخصيص حلقات كاملة عن مقالاتي”.

ومن وجهة نظر منصور ندا، يفترض إصلاح الإعلام أن يكون مقدما على الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، لأنه دون إعلام يثق به الجمهور وإعلاميين يصدقهم الناس وبيئة إعلامية صحية يتم فيها التواصل الحر من أعلى إلى أسفل والعكس بنفس الكفاءة، يفقد أي إصلاح فعاليته وتأثيره وأهميته.

ومازالت معضلة البعض من المذيعين أنهم يعتقدون أن الوصول إلى الناس هو النجاح الحقيقي في المهمة، وهؤلاء لا يؤمنون بالفارق الكبير بين الوصول والتأثير، فهناك وجوه شهيرة بإمكانها توصيل المعلومة، لكن الشارع لا يصدقها ولا يعيرها اهتماما أو يتأثر بها، لتراجع مصداقية الطرف الوسيط الذي يقوم بنقل الرسالة.

وشكا الرئيس عبدالفتاح السيسي من الإعلام وتطرقه إلى قضايا هامشية بعيدة عن اهتمامات الشارع والسلطة، وفي مناسبات عديدة طالب الإعلاميين بالتركيز على وعي الناس والاهتمام بنبض الشارع وعدم مناقشته بلغة لم تعد ذات جدوى في الإعلام المعاصر.

ولفت الأكاديمي في أحد مقالاته إلى أن السيسي عندما يئس من الإعلام بدأ يقوم ببعض مهامه في توصيل الرسائل إلى الناس وتوضيح أهداف الحكومة، وصار الشارع ينتظر أحاديثه لأنها الوحيدة التي يمكن تصديقها، حتى بدأ الناس ينصرفون عن المنابر بحثا عن الأخبار الصحيحة التي أصبح السيسي مصدرها.

Thumbnail

ويتعامل بعض الإعلاميين بمنطق ملكية الشاشة، وأيّ نقد يوجه إليهم يحمل نوعا من التجاوز بحقهم، ورغم ارتفاع أصوات الاحتجاج الأكاديمي والجماهيري ضد أدائهم، إلا أنهم يتمسكون بالاستمرار على نفس الوتيرة.

ويؤخذ على هيئات تنظيم الإعلام ووزارة الإعلام أنها لم تنظم لقاءات حوارية جادة وعميقة لتناول أزمات المهنة والاستماع لوجهات نظر وحلول الخبراء والمتخصصين لوضع استراتيجية ترضي كل الأطراف وتؤسس لهامش حرية يعيد الاعتبار والتأثير للشاشة، بدلا من التربص بكل صاحب رأي يحاول التغريد خارج السرب.

وأكد منصور ندا أن مناقشة أزمات الإعلام على طاولة واحدة يجتمع فيها المذيع والمسؤول والأكاديمي والمتخصص تحتاج لإرادة حقيقية، فهناك تطورات إعلامية تفرض البحث في خلفيات وأسباب تحول الإعلام إلى مخاطبة نفسه، ومنح الفرصة لمنابر معادية لاستقطاب شريحة من المشاهدين “نحن من نمنحهم الأسلحة”.

وبسؤاله عما إذا كانت الأزمة في الوجوه أم السياسة الإعلامية، أجاب: الاثنان معا. مصر تستحق محتوى إعلاميا أكبر وأعمق من الذي يتم تسويقه للناس، وتحتاج وجوها جديدة لديها مصداقية واحترافية ومهنية وقدرة على احتواء كل الأطراف، مع الاقتناع بأن المشاهد هو الذي على حق.

ويؤخذ على منصور ندا أنه لم يتطرق إلى جهات أخرى شريكة في صناعة المحتوى الإعلامي الذي انتقده، وهي المالكة لأغلب القنوات والصحف، وتتحكم بنسبة كبيرة في المحتوى واختيار الوجوه التي تظهر على الشاشة، وهي من تحدد التوجه التحريري للبرامج، ووجّه أصابع الاتهام مباشرة إلى الرؤوس التي تنفذ السياسة.

وبات المشهد الإعلامي بحاجة إلى من يلقي في مياهه الراكدة حجرا ثقيلا، على الأقل لجذب انتباه الأطراف المختلفة بحقيقة الواقع للاستفاقة من التراجع المهني ومواجهة التحديات التي تتعرض لها الدولة بحنكة إعلامية.

وأوضح منصور ندا أن إعادة الاعتبار للإعلام تبدأ بقناعة المذيع أن تصعيده وبقاءه مرهونان بشعبيته وقوة تأثيره لا علاقاته الشخصية، بحيث تكون اختيارات المشاهدين المعيار الأهم للبقاء، مع التوقف عن الدعاية الفجة ولغة التخوين والصوت العالي والتركيز على نبض الشارع وبيان أوجه القصور، مع حتمية الاعتماد على أهل الكفاءة لا الثقة واستقطاب المحترفين وإقصاء الهواة ورفع سقف الحريات.

18