السجادة الحمراء سرقت جمهور السينما

هل تنجح الفعاليات السينمائية المثيرة في تحفيز الناس على مشاهدة الأفلام؟
الأحد 2020/11/08
فيلم "يوم الدين" حاول اجتذاب الجمهور

لا خلاف على وجود هوّة بين جمهور السينما ومنتجيها وأفلامها، الهوة تتجسد بشكل جلي في الاهتمام السطحي بالمظاهر التي ترافق المهرجانات السينمائية أكثر من الأفلام التي هي محورها، فمثلا تنتشر صور النجمات وأزيائهن وهن يعبرن السجادة الحمراء – التي صارت تقليدا للترحيب بالضيوف- أكثر بكثير من انتشار عناوين الأفلام أو ما يكتب عنها أو مشاهدتها حتى. كما أن المهرجانات السينمائية على تعددها لم تنجح في خلق ثقافة وحراك سينمائيين.

“الليلة، فاز الفيلم القصير “‘ستاشر’ بالسعفة الذهبية 2020، تهانينا للمخرج المصري سامح علاء على فيلمه”..هكذا جاءت قبل أيام تغريدة تويتر عبر الحساب الرسمي لمهرجان كان السينمائي، مُعلنةً عن أول فوز مصري بإحدى الجوائز الرسمية للمهرجان العريق، الأشهر بين الخمسة الكبار، في دورته الـ73، إنه أول فوز رسمي يُدوّن في سجل المهرجان باسم السينما المصرية، برغم تاريخها الذي يتجاوز القرن من الزمان.

على الرغم من العديد من الترشيحات والإشادات والتنويهات السابقة، ومن الجائزة الاستثنائية التي نالها المخرج يوسف شاهين عن مجمَل أعماله في اليوبيل الذهبي لمهرجان كان 1996، تبقى هذه أول جائزة رسمية يمنحها المهرجان للقاهرة، وسُجِّلَت في تاريخ الدورة 73، وهوالرقم الذي يحتفظ برنينه الخاص في أذهان المصريين، إذ يبدو كأنما يحمل لهم وعدًا مُتجددًا بالانتصارات والمسرّات.

في اليوم التالي لهذا الإعلان الهام، فاز نفس الفيلم بجائزة أفضل فيلم روائي قصير من مهرجان الجونة السينمائي، وكان قبلها بأشهر قد فاز بجائزة أفضل فيلم روائي قصير من مهرجان موسكو السينمائي، وحقق الفيلم إنجازًا مبهرًا ومثيرًا للاهتمام.

وفيما التفت عموم المصريين إلى فعاليات السجادة الحمراء في مهرجان الجونة السينمائي (اختتم 30 أكتوبر)، وينشغلون في التعليق على أزياء الفنانات وإطلالاتهن المدهشة مرورًا فوق السجادة الحمراء وأمام عدسات المصورين، كانت ثمة سجادةٌ أخرى يقف عليها المخرج الشاب سامح علاء، مُرتديًا نظارته، رامقًا بثقة عدسات المصورين، حاملًا درعه وشهادة تقديره المكتوبة بفرنسية منمقة، دونما انتباه كبير من أبناء وطنه.

صناعة بالدفع الذاتي

المخرج سامح علاء أول مصري يتوج بالسعفة الذهبية في كان
المخرج سامح علاء أول مصري يتوج بالسعفة الذهبية في كان 

فوز الفيلم المصري القصير “ستاشر” بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي حدثٌ استثنائي، لكنه برغم ذلك ليس معلَّقًا في الهواء، بلا سياق يُمهِّد له ولا رابط يربطه بتجارب وترشيحات سابقة، قبل أن تأتي مشاركتا المخرجين الشباب بفيلم “يوم الدين” للمخرج أبوبكر شوقي عام 2018، وفيلم “ستاشر” الذي قبض أخيرًا على السعفة الذهبية التي حيَّرَت جميع مَن سبقوه.

رحلة طويلة من الفن والمتعة، وسعي حثيث بدأَته الأفلام المصرية مع أول صافرة لانطلاق السباق الرسمي لمهرجان كان، وقد لا يوقفها هذا الفوز الاستثنائي، فقوة الدفع الذاتي التي عبرت بالسينما المصرية أول قرن من عمرها المديد، يُمكنها أن تستمر في دفع الصناعة إلى الأمام وفي إذكائها بالصُنّاع الموهوبين.

ليس الدفع الذاتي وحده، بل العمق التاريخي لهذه الصناعة العريقة، بنجومها ومخرجيها وصُنّاعها المهرة والمبدعين، ومدرستها التقَنية التي تبني على القديم وتهضم الجديد وتتجاوز المحن.

فوز الفيلم المصري القصير {ستاشر} بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي حدثٌ استثنائي، لكن يجب البناء عليه
فوز الفيلم المصري القصير "ستاشر" بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي حدثٌ استثنائي، لكن يجب البناء عليه

تبقى الفجوة الهائلة بين منتجي السينما والجمهور كحقيقة ماثلة لا يمكن إغفالها، والأمثلة كثيرة، منها فيلم “يوم الدين” الذي كان قريبًا من تحقيق الفوز الأول بالسعفة الذهبية، لكنه نال عوضًا عنها جائزة الناقد الفرنسي فرانسوا شاليه ضمن فعاليات كان.

هذا الفيلم على وجه التحديد يشير بأصابع عديدة نحو الفجوة، فالفيلم جدير تمامًا بالمشاهدة، لكونه بسيطًا في تكوينه، إنسانيًّا في موضوعه، لطيفًا ورافعًا للمعنويات لدرجة وصفه على لسان الكثير من مشاهديه بالفيلم الكوميدي.

ما يعني أن العديد من عوامل النجاح الجماهيري قد توافرَت له، بحيث تنزع عنه الوصمة الشهيرة التي اعتاد جمهور السينما أن يصِم بها أفلامًا ذات أهمية وتجربة خاصة، فيُسمّيها: “أفلام مهرجانات”، كنوع من أنواع الترميز السلبي والتأبين الجماهيري.

في حين أن مثل هذه الصفة تُعَد في عرف جمهور آخر عنوانًا للتميز، كأن نقول “روايات جوائز، أو فريق بطولات”. لم يصمد الفيلم الواعد لأكثر من أربعة أسابيع في قاعات العرض الجماهيري في مصر، فسرعان ما تمَّت تنحيته دون أن تتجاوز إيرادته حاجز المليون جنيه بمسافة تُذكَر.

ثمة فرص لردم الفجوة بين المنتجين والمتلقّين تُتيحها السعفة الذهبية الأخيرة، فالفيلم الفائز فيلم روائي قصير لا تتجاوز مدة عرضه ربع الساعة، إنها المدة التي يستغرقها عرض الإعلانات قبل أي فيلم تجاري، ولن يتأثر جدول العرض بإضافة ربع ساعة أخرى لزمن المشاهدة، خاصة قبل الأفلام القصيرة نسبيًّا.

هل يُفاجئنا القائمون على إدارة مهرجانات السينما في مصر، ويأخذون على عواتقهم مهمة تثقيف الجمهور وتوسيع مداركه، فيبرمون مثلًا عقودًا مع شركات التوزيع السينمائي، يتم بموجبها عرض الفيلم القصير في دور العرض كجزء من تمويل الجائزة؟ أو يدفعون بتطبيق يُستخدَم على الهواتف المحمولة والكمبيوترات لمشاهدة الأفلام القصيرة الجديرة بالمشاهدة، أو تلك الطويلة المشارِكة في المسابقة أثناء عرضها خلال المهرجانات؟

لماذا لا يستغلون تواجد النجوم اللامعة فوق السجادة الحمراء أثناء الحفل الختامي، لأجل الترويج لمثل هذا التطبيق الذكي، والتنويه بالأفلام الفائزة وحثّ الجمهور على مشاهدتها؟

هل نحلم بأن تُشارك النجوم البراقة في ما هو أبعد من السطوع أمام الكاميرات، فنجدهم يُشاركون في حملات توعية لجمهور السينما بأهمية التنوع ومتعة الاكتشاف؟

إنها صناعتهم، سماؤهم التي ترصَّعَت بهم وبمَن سبقوهم لصناعة الأفلام، ومَن سيلحقون بهم ويحفظون تاريخهم في قادم الأيام، إنها استوديوهاتهم التي عليها أن تظل دائرة ومنتجة، والتي ستبقى ردهاتها أحبَّ إليهم من أزهى السجاجيد الحمراء؛ والفائز هنا ابن جِلدتهم، كما هو ابنٌ لكارهم وتاريخهم وحرفتهم، وقد وقف أخيرًا حاملًا السعفة، ممتلئًا بالثقة أمام الكاميرات، لذلك وجب عليهم الوقوف والتصفيق.

عدسات وسجادة حمراء

حسناوات المهرجانات يتنافسن على السجادة الحمراء
حسناوات المهرجانات يتنافسن على السجادة الحمراء

منذ ما يقرب من النصف قرن، صارت السجادة الحمراء تقليدًا راسخًا في المناسبات الكبيرة، خاصة تلك التي تشهد ظهورًا خاصًّا للنجوم أمام عدسات المصورين وتحت وابلٍ من صيحات المهلِّلين، فلم يعُد التقليد حكرًا على الملوك والزعماء ومَرسمًا أساسيًّا في استقبالاتهم الرسمية المهيبة، بل صار رمزًا شائعًا لحفاوة الاستقبال ورِفعة شأن الضيوف.

ونرى السجاجيد الحمراء تُفرش لاستقبال الفرق الرياضية المتوَّجة، كما يُفعَل لأجل ضيوف حفلات التكريم، وزوار المعارض الدولية الأنيقة، لكنْ أنّى لهذه اللقطات البراقة أن تسحب الضوء من الحدث الرئيسي التي تُلتقَط على هامشه، إذ يحدث ذلك فقط في عالم السينما.

سبقت حفلات الأوسكار لهذا المضمار كما تفعل في غيره، فكانت أول من بسط السجاجيد الحمراء لاستقبال ضيوف الحفل، فيما مضَت عدة عقود قبل أن ينتبه الضيوف لضرورة الرد على اللفتة الكريمة، ببذل المزيد من جهد التأنُّق قبل مرورهم العابر فوق السجادة الحمراء، ولم تصر معتادةً تلك الإطلالات الباذخة للفنانين والفنانات حتى بداية الألفية الحالية.

صار ضيوف المهرجانات، خاصة من الفنانات على وجه التحديد يتبارين فوق السجاجيد الحمراء على الظهور بهيئة تُعزِّز حضورهن المرغوب في أذهان الجماهير؛ صارت الأزياء الباهظة أمرًا معتادًا، والموغلة في الإثارة والمثيرة للَّغط، وصار أول سؤال يُطرَح على النجمات إذ يعبرن تباعًا فوق السجادة الحمراء، ليس عن الفيلم الذي يُشاركن به في الفعاليات، بل عن مصمم الأزياء الذي اختار لهن الإطلالة الساحرة، والتسريحة اللافتة، والمجوهرات والإكسسوارات المدهشة.

هناك فجوة تشبه هوّة سحيقة يصعب عبورها تفصل بين عالمين، عالم الجمهور والإعلاميين، وعالم المنتجين والسينمائيين

واستمر الحال حتى طغَت أسماء مصممي أزياء السجادة الحمراء على مصممي ملابس الأفلام المشاركة، وأسماء المخرجين ولجان التحكيم، وحتى أسماء الأفلام.

يبدو أن فجوةً ما تفصل بين عالمين، عالم الجمهور والإعلاميين، وعالم المنتجين والسينمائيين، بل إنه وادٍ سحيق يصعب عبوره دون جسر مفروش بسجادة حمراء، إذ يزعم البعض أن عدسات المصورين أعين العالم المحيط بالحدث، على اتساع دوائره، وأن النجوم بإطلالاتهم البراقة المميزة وأزيائهم الباهظة الملفتة، هم مَن يصنعون واجهةَ المهرجان ويلفتون إليه الأنظار، مَن يجتذبون اهتمام الضيوف والإعلام والجماهير لمتابعة الفعاليات والمشاركة فيها.

ويتهم البعض المواقع الإعلامية والإخبارية بالتركيز فقط على أزياء الممثلات والتنكُّر التام للمحتوى المعروض والأفلام المشاركة وصُناعها الموهوبين، بينما يتساءل آخرون: ما الذي سيثير اهتمام الجمهور بأفلام لن تُتاح له مشاهدتها إلا بعد شهور؟ فحضور مهرجان الجونة السينمائي اقتصر على المتسابقين والضيوف والإعلاميين، ولا يتم عرض الأفلام المشاركة إلا داخل قاعات محدودة، بعيدًا تمامًا عن الجمهور المستهدَف والمشغول بالأزياء.

ولا يبقى للمهتمين غير ما ينقله الصحافيون والنقاد السينمائيون عن الأفلام المشاركة عبر مواقع ومنصات محدودة لا تملك محتوى مرئيًّا يُشبع فضول المتابعين وشغفهم بمعرفة ما يدور بالداخل، فلا يبقى مثيرًا للاهتمام غير الأزياء.

هل تنجح الفعاليات المثيرة الباذخة في استثارة شغف الجمهور بالمشاهدة؟ ثمة شكوك واقعية حول مدى النجاح المأمول في هذا الصدد، إذ يخفت الاهتمام مع مرور الوقت، وستحل أحداث أخرى أكثر إثارةً مكان سابقتها، وستُعرَض بعض الأفلام نهاية المطاف في سينما “زاوية”، حيث يتجمَّع هواة السينما والمهتمّون بصناعتها، لمشاهدة الأفلام في إحدى قاعات سينما أوديون في منطقة وسط القاهرة، يشاهدون الأفلام ويتناقشون حولها ويختالون باختلافهم.

يكفي تأمل الاسم الذي اختاروه بروح مصرية تمزج المرارة بالسخرية “زاوية”، بما ينطوي عليه الاسم من دلالة الانزواء، والاستبعاد، ربما التذنيب، إذ يسعى محبّو الأفلام السينمائية المستقلة والتجريبية، وأحيانًا يسمونها البديلة إمعانًا في الانزواء، لرُكن بعيد هادئ يرتكنون إليه ويحتمون فيه من تيار الأفلام التجارية العام.

15