تلاوة القرآن بأصوات المطربين مثار خلاف وتساؤلات بلا إجابات

أثيرت حزمة تساؤلات عن مدى احترام الأزهر للفنون الراقية، في وقت اعتبر إقدام أحد رجاله على أداء أغنية عاطفية لأم كلثوم خطأ يستوجب الإيقاف عن العمل، والتحقيق في الواقعة من أجل إنزال العقوبة المناسبة، تحت مسوغ أن الشيخ الأزهري أضر بهيبة رجال الدين ورسالتهم.
مثّل القرآن منذ نزل محمولا على أجنحة الروح الأمين، ورُتِّل عبر حناجر في عذوبة أبي موسى الأشعري وتلاوة سالم مولى أبي حذيفة، مصدر إلهام ونشوة لكل متعلِّق بآياته ومسحور بقصصه ومعانيه. ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن، يجهر به”، ما يُفيد بأن تحسين الصوت في التلاوة والتلذُّذ بترتيل الآيات جهرا أمام الآخرين أمرٌ يُقصد به جميع المسلمين، ليس حِكرا على فئة بعينها مهما علا شأنها أو تحقَّق لها وضع خاص.
ومن الغريب أن يُثار الخلاف في المجتمع بين الحين والآخر حول جواز تسجيل المطربين للقرآن الكريم بأصواتهم، وينبري بعض مشايخ الأزهر الشريف ومشيخة عموم المقارئ المصرية دفاعا عن قداسة قراءة القرآن، زاعمين بأن تسجيل القرآن لا يجوز دون إجازة منهم لمن يرغب في قراءته، ومانحين أنفسهم سُلطة المنع أو السماح في شأن يُفترَض به أنه يخص عموم المسلمين.
أثيرَت القضية مؤخرا كما حدث مرارا خلال المئة عام الماضية، أي منذ صار ممكنا أن تقترن الحناجر الذهبية بالتلاوة القرآنية عبر التسجيل الصوتي، حين أعلن المطرب المصري حكيم رغبته في تسجيل القرآن بصوته.
لا يمثل حكيم حالة فريدة في هذا الشأن، إذ لا يصبر أصحاب الحناجر الفذة طويلا على المنع، ويتوقون لأن تقترن أصواتهم بالتنزيل الرباني، الأقدر دوما على اختراق الصدور والوقار في القلوب، وقوبِل تَوقُهم بالرفض والمنع جيلا بعد جيل، بداية من أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، ومرورا بعلي الحجار ومحمد الحلو، وليس انتهاء بأحمد سعد وبهاء سلطان، وجميعهم من أصحاب الأصوات الاستثنائية والمواهب التي تعرف يقينا جدارتها بتلاوة القرآن.
منذ نشأة الإذاعة في النصف الأول من القرن الماضي، ترسَّمت حدود دولة القراء من جهة ودولة المطربين من جهة أخرى، واستقرَّت بينهما الأواصر والعلاقات الدبلوماسية على أساس من حُسن الجوار والاحترام المتبادَل، فصرنا نسمع الإشادات المتبادلة رواحا وجيئة بين أقطاب الدولتين، فنجد الشيخ مصطفى إسماعيل يُشيد بموهبة أم كلثوم، ونفاجأ بمحمد عبدالوهاب وهو يُطري الشيخ مصطفى قائلا إن الشيخ لو قرَّرالغناء لاعتزله الموسيقار الكبير على الفور، حيث يملك الشيخ موهبة لا تُضاهى.
دولة القراء والمطربين
ولطالما انبنى هذا التقدير المتبادل على أسس دينية ومعرفية وموسيقية، فجميعهم بدأ حياته طالبا في أحد الكتاتيب، يحفظ القرآن على يد شيخ معمَّم قبل أن يبدأ مسيرة ترسمها حنجرته الاستثنائية.
وبرغم الاحترام المعلَن، حافظَت كل دولة (جهة) على استقلاليتها وفرضت قيودا متفاوتة التعقيد على إرسال سفرائها إلى دولة الجوار، لذا فقد قوبلت رغبة سيدة الغناء أم كلثوم في تسجيل القرآن بصوتها بالرفض القاطع خلال ستينات القرن الماضي، على الرغم من سلامة نطقها ومخارج ألفاظها وحفظها القرآن على يد مشايخ أزهريين، وكذا قوبل طلب الموسيقار محمد عبدالوهاب، وهو مَن نشأ في بيت يتردَّد القرآن بين جدرانه ليل نهار، إذ كان أبوه مؤذنا وقارئا للقرآن في مسجد سيدي الشعراني، وخلفه الابن الأكبر حسن الذي تربّى عبدالوهاب على يديه.
وترك الموسيقار عبدالوهاب تسجيلا بصوته لسورة الضحى يُظهر سلامة نُطقه وإجادته لأحكام التلاوة والتجويد، وكذلك سجَّلَت أم كلثوم بعض الآيات من سورة إبراهيم في فيلم “سلامة” الذي أنتج عام 1945، أبرزَت إتقانها التام لأحكام التلاوة وبراعتها التي تُضاهي أفضل القراء وأجدرهم على الإطلاق؛ فلأي سبب قوبِلت رغبة هؤلاء بالرفض الرسمي؟
ظلَّت عين كبار المطربين على قدر موهبتهم على تلاوة القرآن، إذ يعتبرونها قمة الأداء الصوتي ومبلغ الجدارة النغمية، وعلى النقيض، أبدى عدد من المقرئين الأفذاذ رغبة مماثلة في ولوج عالم الطرب والغناء، إذ نُقِل عن الشيخ محمد رفعت أنه كان يدندن بالموشحات والقصائد العاطفية حين ينفرد بنفسه أو بخاصته من المقرَّبين، وكان محبّا للموسيقى الكلاسيكية وجامِعا لأسطوانات المطربين الأفذاذ.
القضية ليست في إجادة المطربين ترتيل القرآن من عدمها، بقدر ما هي حدود تم فرضها وليس ثمة نية لرفعها أو التساهل فيها
كما استعان الشيخ علي محمود بالموسيقار سيد درويش في تلحين عدد من الموشحات التي كانت أشبه بالأغاني العصرية منها للنمط المعتاد في الابتهال الديني، وهكذا فعل الشيخ سيد النقشبندي حين تعاون مع الموسيقار بليغ حمدي فصنعا عددا من الأغاني الدينية غير المسبوقة.
أما الهجرة العكسية من عالم الغناء العاطفي إلى عالم الابتهال الديني فلها من الأمثلة في مصر ما لا يمكن حصره، نذكر منها الموسيقارين فؤاد عبدالمجيد وأمير عبدالمجيد، والمطربة ياسمين الخيام، وليست ثمة غرابة في رغبة المطربين في السفر إلى دولة القراء كسفراء منتخَبين وممثلين عن دولة الطرب.
الغريب فعلا هو المنع بغية الحفاظ على هيبة القراءة القرآنية وقداستها، والتحجُّج بالحاجة للتأكد من إجادة المطرب لأحكام التلاوة أولا وعن طريق المشافهة، أي قراءة القرآن على أحد الشيوخ المانحين للإجازة، فالتاريخ يُثبت أن الإجازة لا يتم منحُها مهما أجاد المطرب أحكام التلاوة، مع أن القرآن أُنزل للجميع، حتى يقرأه الجميع.
هكذا حدث مع أم كلثوم وعبدالوهاب، وهما المتقنان لأحكام التلاوة ومخارج الألفاظ، وهكذا حدث مع علي الحجار الذي نال بالفعل إجازة من الأزهر بتسجيل آيات من القرآن تُذاع عبر حلقات “قصص الأنبياء والصحابة”، الأمر الذي يؤكد إتقانه أحكام التلاوة والتجويد، قبل أن يُقابَل طلبُه تسجيل القرآن كاملا بصوته بالرفض القاطع.
حدود يصعب اختراقها
مطربون برعوا في ترتيل القرآن

- أم كلثوم: رتلت آيات من سورة "إبراهيم"
- محمد عبدالوهاب: رتل سورة "الضحى"
- وردة الجزائرية: رتلت آيات من سورة "آل عمران"
القضية إذا ليست في الإجادة من عدمها، بقدر ما هي حدود تم فرضها بين الدولتين، وليس ثمة نية لرفعها أو التساهل في تطبيقها، حتى أن الاتجاه المعاكس يُقابَل بنفس الجدية، فها هو الشيخ إيهاب يونس القارئ والمنشد الأزهري المعمَّم يوقَف عن عمله الدعويّ ويُحال إلى التحقيق بسبب أدائه لأغنية عاطفية لأم كلثوم، وذلك خلال لقاء تلفزيوني في إحدى القنوات الفضائية، والحجة أن أداء الشيخ الأزهري أغنية عاطفية يضر بهيبة رجال الدين ويتنافى مع رسالتهم.
وبحسب ما جاء على لسان وزير الأوقاف آنذاك تعليقا على هذه الواقعة، فإن البيان الذي أصدره الأزهر الشريف يؤكد احترامه التام للفنون الراقية، لكن مع الوضع في الاعتبار أن للفن رسالته وللعالِم والإمام والواعظ رسالته.
ثمة تناقض لا يمكن إغفاله، فلو كان الأزهر يُكن احتراما حقيقيّا للفنون الراقية، والمقصود هنا أغاني أم كلثوم، لما اعتبر إقدام أحد رجاله على محاكاة هذه الفنون خطأ يستوجب الإيقاف عن العمل، والتحقيق في الواقعة من أجل إنزال العقوبة المناسبة.
إن مثل هذا الإجراء يُذكّرنا بما لاقاه الشيخ إمام عيسى الملحن والمطرب المصري، في بداياته، حيث تم فصلُه من الجمعية الشرعية التي كان يتعلَّم فيها التلاوة كي يعمل قارئا محترفا للقرآن، بسبب سماعه للقرآن عبر جهاز الراديو، ما كان يُعَد بدعة تُخالف الشرع آنذاك، ما دفع الشيخ إمام لأن يحترف الغناء متتلمذا على يد الشيخ الحريري والشيخ زكريا أحمد، وهكذا يُتوقَّع للشيخ إيهاب يونس حال استمر التعنُّت مع موهبته الفذة، فقد يتقدَّم بطلب هجرة إلى دولة المطربين مثلما فعل الشيخ إمام، وسيجد ترحيبا يُماثل أو يفوق ما وجده الشيخ.
ولطالما أبدت دولة القراء سماحة أكبر مما نشهده اليوم، إذ كان روادها الأوائل يقدِّرون الفن ويحترمون رموزه احتراما حقيقيّا بعيدا عن الدبلوماسية والتصريحات الأنيقة. فها هو الشيخ محمد رفعت يحتفظ بمكتبة كبيرة للموسيقى الكلاسيكية والغناء العالمي، ويفتح صالونه للمثقفين ولكبار الموسيقيين، منهم الملحن والمطرب يهودي الديانة زكي مراد، وابنته ذات الصوت الساحر ليلى مراد. وها هو الشيخ مصطفى إسماعيل يُعرب عن إعجابه الشديد بصوت أم كلثوم، والشيخ محمد عمران يتحدث عن عبدالوهاب باعتباره أستاذه.
وضمَّت دولة القراء قديما بين مواطنيها الأفذاذ قارئات في شهرة الشيخة كريمة العدلية، والشيخة منيرة عبده، والأخيرة كانت تُناهز الشيخ محمد رفعت شُهرة وتتقاضى أجرا من الإذاعة المصرية يقارب ما يتقاضاه، قبل أن يصدر قرار بمنع القارئات من تلاوة القرآن عبر أثير الإذاعة.
كما حفِلَت السينما بتلاوات مميزة لأشهر المطربات مثل أم كلثوم ووردة الجزائرية التي رتلت آيات من سورة “آل عمران” دون أن يُثير ذلك حفيظة أحد أو يدفع البعض للقول
إن ثمة انتهاكا لقدسية القرآن. لكن يبدو أن هذه السماحة قد تآكلت في المجتمع مع توالي السنوات، وأفسحَت مكانها لتشدد صار سمة عامة لرجال الدين.
ولولا السماحة القديمة ما وصلنا الأذان عبر حناجر في سخاء المطرب السوري صباح فخري وبريق الفنان السعودي محمد عبده؛ لولاها ما استمعنا لآيات القرآن بأصوات في طلاوة صوت أم كلثوم وفرادة عبدالوهاب.
ولولا التشدد ما كنا حُرِمنا من صوت الشيخ إمام في تلاوة القرآن فضلا عن الغناء، ولكُنّا حصلنا على تسجيلات كاملة للقرآن الكريم بأصوات في ألَق أحمد سعد ورخامة بهاء سلطان، وكلاهما من تلاميذ القارئ والمنشد الفذ الشيخ محمد عمران.
وبرغم هذه المفارقة التي صرنا نعيشها بين سماحة بائدة وتشدد صار سمة عصر يُفترض به أن يكون أكثر انفتاحا على التنوع والاختلاف، فإن لغة المنع لن تجد مَن يعتمدها لغة للتفاهم والحوار في قابل الأيام، ولن تكون لدى أي جهة سُلطة الرفض والقبول في ما يخص قراءة القرآن، لأن الوسائط الحديثة القادرة على حفظ التسجيلات ونقلها لآذان المستمعين لا تني عن الظهور كل حين. فاليوتيوب والساوند كلاود وغيرهما من الوسائط المتاحة للجميع تستمر في حمل الرسائل بين دولتي القراء والمطربين، وتيسير مهام السفراء المنشغِلين بتقريب وجهات النظر في ما بينهما.
والأجدر أن يُنظَر للأمر بشيء من السماحة والتقبُّل، حتى توضَع الأطر المنظِّمة لعملية تسجيل القرآن الكريم بما لا ينطوي على احتكار التنزيل السماوي، أو التقليل من شأن الفن والفنانين، فلا يُطالبهم
أحد بأن يعتزلوا الغناء لو اعتزموا تسجيل القرآن، أو أن يخضعوا لسُلطة مَنع تُجافي قواعد الموضوعية والمساواة.
ويبقى على هؤلاء السفراء من دولة المطربين إثبات جدارتهم بما تُتيحه لهم أدوات العصر، فلا يُقدِم مُطرب في موهبة أحمد سعد مثلا على تسجيل القرآن بصوته قبل الإلمام التام بأحكام التجويد وإتقانها على الوجه الصحيح؛ فالتاريخ لن يتسامح مع المقصِّرين، كما سيتوقف بالمِثل عن مساندة المتعنِّتين.