هل نجحت الفلسفة التبسيطية في مواجهة الحداثة وتعقيدات الحياة

أدباء وسينمائيون وموسيقيون وتشكيليون يميلون إلى التبسيط للاقتراب من جوهر الجَمال.
الأحد 2021/06/06
تبسيط الأشياء أدى إلى اغتراب الجمهور

الكثير من الأدباء والفنانين ينادون بضرورة التبسيط وتجنب التعقيد، في عالم ضاغط بأحداثه المتسارعة. إنها دعوة ما انفكت تتعاظم منذ منتصف القرن الماضي، حتى أصبحت واقعا طاغيا في المعمار والفنون والآداب، بدعوى أن المتلقي والحياة لا يحتاجان إلى التعقيد الذي شاب الفنون سابقا. لكن المفارقة أن التبسيط الذي عرفته مختلف الفنون ساهم في انفصالها عن الجمهور، الذي مازال يميل إلى الأعمال المعقدة، وتتحاشى ذائقته الأعمال التبسيطية.

كثيرًا ما توصف الحياةُ باللعبة، ليس فقط على المستوى المجازي، بل باعتبارها مرهونةً بقوانينها الخاصة والخيارات التي يقوم بها اللاعبون خلال أعمارهم المحدودة بالزمن.

وقد يرى البعض أن التعقيد يزيد من مُتعة اللَّعِب، ما يمكن أن يصح في حالة لعب الكوتشينة مثلًا أو الشطرنج، لكن ماذا عن الحياة؟ هل تزداد متعتها كلما انحاز البشر إلى التعقيد والتقدُّم والمخترعات؟ أم أنها تصير أكثر ضغطًا وإرباكًا فوق ما يحتمله اللاعبون، فلا تعود ممتعةً على الإطلاق؟

العودة إلى الطبيعة

ربما يكون هذا السؤال هو ما دفع العديد من دُعاة الفكر لأن ينادوا بالعودة إلى البساطة، خاصة مع أواسط القرن الماضي بعد حربين عالميتين متتاليتين، فقد شهِدَت تلك الحقبة الزمنية أعلى درجات التوتر الفكري والاضطراب السياسي؛ شهِدَت مثلًا بزوغ حركة الهيبيز والكومونات، ودعاوى التظاهر والتمرد على المؤسسات.

إنها أقسى فترات المحاسبة التي عاشتها البشرية، حيث راجعَت نتائج الحداثة والتقدم العلمي والتقني الذي أحرزته خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

أثناء حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت تيارات سياسية واجتماعية عديدة تُناهض الحداثة، وتنادي بعودة الإنسان إلى الطبيعة والجذر الإنساني المشترك، من بينها ذلك الاتجاه الفكري والفني المسمّى بالمينيماليزم (minimalism)، أو التبسيطية، وهو تيار يدعو إلى تبسيط الأشياء وتخليصها من الزخارف والتفاصيل الزائدة عن الحاجة، ومن تعقيداتها التي تضُر بوظيفتها وتشوِّش على جوهرها الأساسي.

لا حاجة لأن يكون المنزل على سبيل المثال مُتخمًا بالزخارف والأثاث والتجهيزات بالغة التعقيد، والسيارة على نحو مشابه لا يُفترض بها أن تكون مثالًا للفخامة والبهرجة، كأنها صالون من العصر الباروكي.

متعة الحياة

تيار ساهم في إعادة تشكيل العالم (لوحة للفنانة أغنيس مارتن )
تيار ساهم في إعادة تشكيل العالم (لوحة للفنانة أغنيس مارتن )

يعتقد مُعتنِقو اتجاه المينيماليزم الفكري أن متعة الحياة ليست في التعقيد الزائد عن الحد، وأن السعادة لا تُدرَك عبر تحصيل المزيد من الوسائل وتكديس الكثير من الحاجيات، لا يجب أن يُترك الحبلُ على الغارب للمادية والاستهلاكية الحديثة كي تقود مسيرة البشرية، فالسعادة الحقة في النزوع إلى البساطة والتحكم في الرغبة في التملُّك.

وقد اعتنق العديد من الفنانين من مختلف المجالات هذه الفلسفة، منهم التشكيليون من رسامين ونحاتين ومعماريين، ومنهم الموسيقيون والأدباء والسينمائيون، حتى مصممو الأزياء والجرافيك ومنسِّقوا الحدائق انخرطوا في هذا التيار ومالوا للتبسيط، للاقتراب من جوهر الجَمال والتخلص من الزوائد والزخارف والمبالغات التي تُشوِّش على المعنى؛ مالوا إذًا إلى المينيماليزم.

يقول المثل الفرنسي الشهير، إن “الجَمال هو البساطة”، ويبدو أن المثل حديثٌ نسبيًّا، إذ يتناقض بدرجة كبيرة ومدهشة مع رؤية الفرنسيين الكلاسيكيين للفن خلال القرون التي سبقت القرن العشرين. أنتجَت تلك الرؤية الكلاسيكية الممتدة من القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر ما يُسمّى بعصر الباروك، ثم بدأ الباروك المتأخر – أو الروكوكو – تلك الفترة التي ازدهرت فيها فنون مُغرقة في التعقيد والزخرفة الكثيفة بالتفاصيل.

دعَّمَت الـمَلَكيات القديمة والكنيسة الكاثوليكية هذا الاتجاه شديد البهرجة والتعقيد في فنون العمارة والنحت والديكور وتصميم الميادين والنصب التذكارية، وما تزامن معها من فنون التأليف الموسيقي والأوبرا وغيرها، عكس ما انحازت إليه الكنيسة البروتستانتية الناشئة آنذاك، حيث مالت الأخيرة إلى تبسيط العقيدة وكذلك الفنون، وإلى تفكيك التسلسل الهرمي الصارم الذي فرَضته الكنيسة الكاثوليكية في السابق، لذا فإن الصراع بين الكنيستين قد انعكس على العمارة والفن، فازدهرا بطريقة مختلفة في إسبانيا الكاثوليكية مثلا عنها في الولايات الأميركية البروتستانتية.

كان التعقيد والبهرجة والإغراق في استخدام الرموز في الرسوم والأيقونات أكثر تناسبًا مع حُماة السُّلطة الروحية المفروضة على الشعب، ومع التسلسل الهرمي لمناصب الكنسية الذي يحفظ لهذه السُّلطة مكانتها وسيطرتها، وقد ساهمَت الأنظمة الـمَلَكية في الحفاظ على هذه التراتُبية المتماسكة، واستفادَت بالتأكيد من هذا الميل إلى البهرجة ومن توظيف الرموز والمعاني الغامضة في الحفاظ على السُّلطة.

على النقيض، تَناسَب الانحياز إلى التبسيط وإلى التخلص من الزوائد مع مزاج الخارجين على سُلطة الكنيسة الكاثوليكية، ومثلهم مع المتمردين على النظام الملكي إبان الثورة الفرنسية، لذلك انحاز البروتستانت إلى البساطة التي تستشف جوهر الأشياء دون الإغراق في الرمزية والتعقيد، كما انضموا لصفوف الثوار الفرنسيين الخارجين على سُلطة الملك.

 التحرر من السلطة

من هذا المنطلَق، يمكننا تأمُّل المينيماليزم كاتجاه بدأ في القرن العشرين يهدف إلى التحرر من السُّلطة الهرمية للمجتمع، أو بصياغة أخرى كتيار يخطو خطوة أبعد في اتجاه الديمقراطية والتشاركية، حتى يستعيد للبشر ليس فقط حريتهم وانعتاقهم من الهرم الاجتماعي المفروض، بل من عبوديتهم للمادة والأنماط الاستهلاكية التي أخذَت تُهيمن على التفكير والسلوكيات، أي التي حلَّت مكان الأشكال القديمة للسُّلطة.

 

المينيماليزم أدى إلى حالة اغتراب بين الفنون التشكيلية وجمهور المتلقّين المُفترَض أن تتوجَّه إليهم هذه الفنون

ظهر العديد من الفنانين المجدِّدين خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ فنانون تشكيليون شقوا طريقهم صوب التعبير عن ذاتية الإنسان واستقلاليته، وساهموا بأعمالهم في الدعوة إلى استعادة الفرد مِلكيته لحياته وانحيازاته.

برزت أسماء مثل النحات والفنان التشكيلي الأميريكي دونالد جَدْ الذي دعا لهذه الرؤية الجديدة للجَمال، وإلى “بساطة التعبير عن الأفكار المعقَّدة”؛ الجمال طبقًا لـ”جَدْ” ليس في صُنع المنحوتات شديدة التعقيد دقيقة التفاصيل من الخامات الموجودة في الطبيعة، كما هو الحال في تماثيل عصر الباروك والروكوكو المصنوعة من الرخام، بل في التعبير عن جوهر هذه الخامات وإبراز نقائها الطبيعي.

المدهش أن يكون ذلك التحول إلى التبسيط والانحياز إلى “ديمقراطية التعبير الفني”، كما أطلق عليه بعض التبسيطيين (minimalists) هو ما أدى إلى حالة اغتراب بين الفنون التشكيلية من جهة، وبين جمهور المتلقّين المُفترَض أن تتوجَّه إليهم هذه الفنون، ما يشكل فارقًا كبيرًا بين فنون القرن العشرين والقرون الأسبق عليه.

لنتأمَّل مثلًا لوحة الفنانة التشكيلية الأميركية أجنِس مارتن المعنوَنة بـ”نهار وليل”، والتي هي عبارة عن مربع أسود كبير، يتوسَّطه خطٌّ عرضيّ باللون الأبيض. ما الذي يُفترَض أن يصل إلى المتلقّي من مربع أسود كبير وخط أبيض رفيع؟ حسنًا، اللوحة تمنح الناظر إليها مفتاحًا واضحًا يتمثَّل في العنوان: “نهار وليل”؛ لكن ما الذي سيصله حقيقةً من هذا المستوى الفائق من التبسيط؟

تنتمي أجنِس مارتِن لتيار التعبيرية التجريدية، وهو أحد التيارات الفنية وثيقة الصلة بالمينيماليزم، لذا يُفترَض بهذا التيار أن يُساهم في إنقاذ البشرية من عبوديتها للمادية ومن صرامة الترتيب الهرمي للسُّلطة، وأن يساعد البشر في استعادة فرديَّتهم وفي امتلاك حيواتهم، لكنْ يبدو أنه استعاد كل ذلك للمبدعين فقط دونًا عن الجمهور، وأن المتلقي البسيط لا يدرك حقيقةَ الإدراك تلك القيمة الفنية لهذا الفن المبسَّط.

إنها المعادلة التي لم تتمكن هذه الاتجاهات الفنية من تحقيقها على النحو الأكمل، فقد يكون تيار المينيماليزم قد أنجز الكثير مما كان يستهدفه في فنون العمارة وتخطيط المدن وتصميم الميادين، وكذلك في فنون الديكور وتصميم الملابس والسيارات والجرافيك وأيضًا المنتجات، أي أغلب الفنون ذات الوظيفة المباشرة في حياة الناس واستخداماتهم، غير أنها ابتعدَت بالفنون الأرقى مثل الفن التشكيلي والتأليف الموسيقي والرقص التعبيري، عن بساطة التلقي وسهولة التأثر بالجَمال.

 موسيقى خالية الدسم

العودة إلى البساطة
العودة إلى البساطة

مَن منا لن يتوقَّف مشدوهًا أمام تمثال باهظ التفاصيل ينتمي لعصر الباروك أو الروكوكو، مثل التمثال المسمّى “نشوة القديسة تيريزا”؟ في المقابل، كم منا سيمسُّهم سحر الجَمال فيما يتأمَّلون منحوتات دونالد جَدْ التبسيطية، التي لا يبتعد شكل البعض منها عن العديد من الأرفف الخشبية الحاملة للكتب اليوم؟ هل يعني ذلك أن المتلقي العادي يحتاج إلى درجةٍ من التعقيد حتى ينبهر بعمل فني؟ أم أن العكس هو الصحيح؟

شهِدت الموسيقى أمرًا مشابهًا لما حدث مع الفن التشكيلي مع بزوغ المينيماليزم، إذ ظهر عدد من المؤلفين الموسيقيين الشغوفين بتخليص مؤلفاتهم من الزخارف والتعقيدات والتوصُّل من خلالها إلى جوهر الجَمال الصوتي.

كان المؤلفون الموسيقيون الأميركيون هم الأسبق في دخول هذا المضمار الجديد والتسابق على الوصول إلى جوهر الموسيقى، وقد برز من بينهم فيليب غلاس وستيف رايش وحصلَت بعض مؤلفاتهما على درجات متفاوتة من النجاح، بل ووجدَت طريقها إلى السينما الأميركية الباحثة دومًا عن الجديد.

بتأثير من تيار المينيماليزم آنذاك، وضع فيليب غلاس موسيقاه التي تعتمد في بنائها على تكرار الجمل الموسيقية – تكرارًا يكاد يكون موتِّرًا للأعصاب من شدة إلحاحه، مع إدخال نقَلات وتغيرات طفيفة كل حين. كذلك فعل “ستيف رايش”، فوضع مؤلفات يمتد أطولها لقرابة ساعة، مبنية بالكامل على التكرار الـمُلِحّ والمذيب للأعصاب. يمكن التعرُّف على نموذج لهذا البناء الموسيقي التكراري عن طريق الاستماع لمقطوعة (Strung out) للموسيقي فيليب غلاس، والتي تَعني “متوتِّر” ولا تأخذ المستمع بعيدًا عن هذا الشعور.

قد يكون لهذا الاتجاه تأثير واضح إلى اليوم في الموسيقى التصويرية، وربما يكون فتح الباب لموسيقى الهاوس وغيرها من أشكال الموسيقى المبنية على التكرار الإيقاعي. لكن، هل بقي شيء من هذه الموسيقى المبسَّطة في ذاكرة الفن، بالمقارنة مع موسيقى باخ وبيتهوفن وموزارت كثيفة التفاصيل، والتي توظِّف البناء الهارموني المعقَّد وتجنَح إلى الإدهاش المستمر بدلًا من التكرار الموتِّر للأعصاب؟

ساهم تيار المينيماليزم في إعادة تشكيل العالم، ما في ذلك شك. ويمكننا بكل بساطة أن نطَّلع اليوم على التصميم الداخلي لبعض السيارات الفارهة لنلمح بوضوح تأثير المينيماليزم: شاشة كبيرة تتوسَّط مقصورة القيادة يتحكم من خلالها قائد السيارة في كل شيء، تحيط بها المسطحات البسيطة شبه الفارغة من التفاصيل. سنلمح بسهولة أيضًا تأثير المينيماليزم في العمارة والديكور وتصميم الأثاث، وفي تصميم الجرافيك والشعارات التجارية وأغلفة الكتب، في الهواتف والحواسيب، وغيرها من المنتجات التي يستهدف مُصمِّموها سهولةَ الاستخدام.

أما في ما يخص الفنون الرفيعة التي تهدف للجَمال دون غيره، فيبدو أن درجةً من التعقيد تبقى ضرورية لإبهار المتلقي، ولحجز مقعد دائم في تاريخ الفن؛ فالمينيماليزم، مهما اتَّسَم بالابتكار، يتعالى ببساطَتِه على الذائقة العامة؛ يقول للمتلقي البسيط: يكفيك هذا، لا حاجة لأن أُقدِّم لك المزيد، هذا هو جوهر الجَمال الذي لم تكتشفه أنت، خلّصتُه من الزوائد وأتيتُ به إليك، في صورة لوحةٍ فارغة من أي ضربة فرشاة غير ضرورية.

14