الرواية والدراما والقصائد تمنح القاهرة ملمحا آخر في رمضان

العامية تتفوق على الفصحى في تصوير طقوس شهر الصيام.
الاثنين 2021/04/26
الفنون تجسد روحانية شهر رمضان

يحتلّ رمضان مكانة خاصة في الثقافة الشعبية المصرية، فهو في المقام الأوّل شهر تعبّدي إشراقي وتصوفي ومنظومة متشابكة من الطقوس والملامح والعادات والممارسات والاحتفالات والتجليات والتفاصيل المتنوّعة المسيطرة على البشر والأمكنة منذ سنوات بعيدة، خاصة في القاهرة التاريخية التي تنفرد بالوجوه الرمضانية البارزة منذ أكثر من ألف عام. ولأن الآداب والفنون المتعددة مرايا التعبير عن الواقع النابض وحركة الحياة المتدفقة فقد استوعبت هذه المظاهر التي بقيت محفورة في الوجدان.

تشير الخارطة الرمضانية المثيرة بمصر إلى أنه شهر الناس، بصخبهم وزيناتهم وفوانيسهم المضاءة وحلواهم المبهجة وأطعمتهم الزاخمة وموائدهم الجماعية ولقاءاتهم في المنازل والصلوات والتراويح والسهرات الابتهالية الإنشادية، وتجمعاتهم في المطاعم والمقاهي والمزارات الدينية والأثرية في شارع المعز لدين الله الفاطمي والحسين والأزهر والمناطق التاريخية، إلى آخر هذه المشاهد الشهيرة التي ينتظرها المواطنون من العام إلى العام.

وقد وجدت الآداب والفنون في هذه المعالم الروحية والاجتماعية وجبة ثرية لتصويرها بكاميرا أمينة للوصول إلى مقوّمات الشخصية المصرية.

رمضان والإبداع

الآداب والفنون راحت تنسج رمضان الناس والحياة والتفاصيل والألوان والممارسات اليومية وغاصت في الضمير الشعبي المصري
الآداب والفنون راحت تنسج رمضان الناس والحياة والتفاصيل والألوان والممارسات اليومية وغاصت في الضمير الشعبي المصري

يشكل الابتهال والإنشاد الديني وحلقات الذكر ملمحًا مصريًّا أصيلًا في شهر رمضان الذي اقترن بتواشيح ما قبل الفجر والإفطار في الحسين والأزهر والجوامع التاريخية المعروفة.

 وارتبطت الأدعية والأذكار الدينية والمناجاة الإلهية بفحول الشعراء والمتصوفة، وأسماء منشدين عمالقة سكنوا القلوب وأثروا الوجدان الجمعي، من أبرزهم سيد النقشبندي ونصرالدين طوبار وطه الفشني ومحمد الكحلاوي وغيرهم من الأجيال اللاحقة، وصولًا إلى المنشدين الجدد الذين يعملون على إحياء التراث الثقافي والديني، مثل الشيخ إيهاب يونس والشابّ وائل الفشني وآخرين.

تمثل أدبيات الإنشاد والتواشيح والأذكار الرصينة، خصوصًا المقترنة بقصائد فصيحة من عيون الشعر العربي، عنوانًا عريضًا للمشاعر الإيمانية وعموميات الأجواء التصوفية لتتمخض الحالة عن المعنى العميق للابتهال، وهو التضرع إلى الله المصحوب بالخشوع.

بالتوازي، راحت آداب وفنون أخرى تنسج رمضان الناس والحياة والتفاصيل والألوان والممارسات اليومية، وغاصت في الضمير الشعبي المصري، وتقصت جذور المفاهيم والظواهر والسلوكيات الكائنة على أرض الواقع، وكان للرواية وشعر العاميّة والدراما باع طويل في هذا المضمار، فحضرت الخصوصيات الرمضانية وتجسّدات القاهرة التاريخية بامتياز في سرديّات نجيب محفوظ وجمال الغيطاني، ودراما أسامة أنور عكاشة ومحمد حلمي هلال ويسري الجندي ومحفوظ عبدالرحمن، ومسحّراتي فؤاد حداد وأشعار صلاح جاهين، وغيرهم من المبدعين البارعين في قراءة حركة الحياة والتقاط نبض البشر.

حياة أهل القاهرة في رمضان أكثر التصاقًا بسرديّات محفوظ والغيطاني ودراما عكاشة ومسحّراتي حداد وأشعار جاهين

يتميز شعر العامية في تجسيده الحاضر الرمضاني في القاهرة بقدرته الفذة على فتح مجال الرؤية ليصير شبكة كبيرة من المرئيات، تشمل سائر الإحداثيات والموصوفات، بما فيها المسكوت عنه، وما بين السطور من العلاقات والمظاهر.

وتعد تجربة فؤاد حداد في قصائد ديوانه “المسحراتي” النموذج الأبرز، حيث احتوى الفضاء الرمضاني لديه التماعات وإسقاطات مكنته من تقصي مناحي الحياة المختلفة، والتطرق إلى أمور دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية، ليس فقط على نحو رصدي، وإنما بحسّ تحليلي انتقادي نافذ.

عبر البوابة الرمضانية وأيقونتها الفريدة “شخصية المسحراتي”، اقتنص حدّاد (1928 – 1985) معطيات الشخصية المصرية ومفاتيحها، سابرًا أغوارها ومكتشفًا أسرارها، ومعبّرًا عن همومها واهتماماتها ومعاناتها مع الحكومات والأنظمة عبر العصور من خلال شعرية فياضة متدفقة، تنتصر لجماليّاتها المجرّدة في المقام الأول، إلى جانب اصطباغها بالطبيعة الملحمية، والنزعة الدرامية الحكائية.

وإلى جانب رسم الأجواء والعادات والتقاليد والاحتفالات المجتمعية في الأحياء الشعبية من خلال المسحراتي، الذي يتحدث في كل نص عن طائفة من الطوائف أو حرفة من الحرف، فإن ترميزات هذه الشخصية تقود كذلك إلى معاني اليقظة والتوقد والتمرد على السائد والعبور إلى الأفضل.

وفي المسار ذاته مضى شاعر العامية صلاح جاهين (1930 – 1986)، فرمضانياته الشعرية هي صورة مصغّرة لهويّة المجتمع المصري ككل، ذلك الكيان الفريد الذي يعتبر شهر الصيام دفقة حيوية وأنوارًا عجائبية ملوّنة مضاءة في الروح وفي الطرقات في آنٍ.

زخم الواقع والتاريخ

Thumbnail

أما سر تميّز السرد الروائي والقصصي والدراما التلفزيونية في التعاطي مع تفاصيل الرمضانيات القاهرية فهو النّفَس الملحمي المتعمق الساعي إلى المزج الواعي بين زخم الواقع الحيّ والرصيد التاريخي للأحياء والأمكنة الشعبية العريقة، خصوصًا شوارع القاهرة الفاطمية وأزقتها وحواريها ومساجدها وآثارها، كما في الحسين والأزهر وخان الخليلي وشارع المعزّ وبوابة المتولي وغيرها، التي لا يزال لرمضان في كنفها نكهة مختلفة.

تمكنت هذه الأعمال الأدبية والفنية من أسطرة الزمان والمكان معًا من أجل السموّ بما هو حقيقي فوق حدود المنطق، وزحزحة ما هو ملموس لكي يتجاوز أفق الدهشة.

 واتخذت الأسطورة وجهًا ثالثًا إضافيًّا لدى كل من نجيب محفوظ وجمال الغيطاني بتوصية كل منهما قبل رحيله بأن يتم تشييع جثمانه من مسجد الحسين وسط أهله وأصدقائه قبل أية جنازة رسمية، لتكون حياة كل منهما، وكتاباته، ومماته، انغماسًا في لحم الأرض الخصيبة الأكثر استيعابًا للتجليات الرمضانية بمصر.

تمثل روايات كل منهما المشحونة بعبق القاهرة الإسلامية والمشاهد الرمضانية مؤشرًا استثنائيًّا لتعانق الجغرافيا والتاريخ، وامتداد حركة الناس والأحداث في هذه المناطق المتميزة التي “يدل عتقها على السؤدد والجاه”، بحد قول نجيب محفوظ في روايته “السكرية”، فلا ينقطع فيها تيار الحياة أبدًا، ويصل إلى ذورة صخبه واشتعاله في نهارات رمضان وأمسياته، مثلما التقط محفوظ وأسهب على نحو تفصيلي في روايته “خان الخليلي”، مبرزًا معالم الحياة الصاخبة هناك التي لا يعرف المرء متى يبدأ صباحها، ومتى ينتهي ليلها.

الحياة الرمضانية النابضة في القاهرة أكثر التصاقًا بسرديّات محفوظ والغيطاني ودراما عكاشة ومسحّراتي حداد وأشعار جاهين

وتنبع مصداقية روايات محفوظ والغيطاني من أنها لم تكن أعمالاً ذهنية معرفية، بقدر ما كانت نهلًا من معين الواقع الفعلي الذي خبره الأديبان، إذ عاشا في طفولتهما وصباهما في حي الجمالية وتشكلت حواسهما وملكاتهما في رحاب حلقات الإنشاد والذكر ومجالس الابتهالات والتصوف، وتفتحت مداركهما منذ الصغر على الروح الشعبية ويوميات الصنايعية والحرفيين.

ومثلما عني محفوظ بالتاريخ الشعبي للعاديين والبسطاء، فقد تلمس الغيطاني في “الزيني بركات” حياة المهمّشين في العهد المملوكي، وتحولت الرواية كذلك إلى دراما رمضانية وصلت الحاضر بالماضي، شأنها شأن ثلاثية محفوظ، التي عرضت تلفزيونيًّا في شهر الصيام.

وانطلاقًا من هذه النافذة الدرامية التي فتحتها أعمال محفوظ والغيطاني المصوِّرة لجوانب الحياة في القاهرة التاريخية، بخصوصياتها الرمضانية الحاشدة، مضى الكثيرون من كتّاب الدراما التليفزيونية، الرمضانية على وجه الخصوص، على النهج ذاته.

وفي هذا النهج توالت الأعمال ذائعة الصيت، من قبيل “بوابة المتولي” عن قصة أسامة أنور عكاشة وسيناريو وحوار محمد حلمي هلال، و”أرابيسك” لعكاشة أيضا وفتش من خلال هذا العمل عن جينات الشخصية المصرية ومحدداتها عبر العصور، و”بوابة الحلواني” لمحفوظ عبدالرحمن، و”علي الزيبق” ليسري الجندي، وهي أعمال جادة، تعدّ بمثابة مرايا أمينة لرمضان؛ شهر الناس والتفاصيل والحياة في مصر المحروسة، القديمة/ المتجددة.

14