الحبيب الصيد لـ"العرب": على التونسيين تغيير نظامهم السياسي إلى رئاسي معدل

رغم ما يحمله المشهد السياسي التونسي من تناقضات فإنه ضم بين طياته العديد من الشخصيات التي كان يعوّل عليها لإدارة دفة الحكم، سواء كانت معروفة للرأي العام أو مغمورة، والرابط بينها، مع اختلاف أيديولوجياتها، أنها اجتمعت لبناء الديمقراطية في مرحلة حساسة للغاية. ويبدو الحبيب الصيد أحد هؤلاء، فرغم خبرته المتواضعة إلا أنه تصدر الواجهة في فترة كان يظن مراقبون أن البلاد ستخرج من عنق الأزمة تدريجيا بعد انتخابات العام 2014. ومع ذلك يقف رئيس الحكومة الأسبق على أطلال الأوضاع التي آلت إليها تونس، ورأى خلال حواره مع “العرب” أنه لا مفر اليوم من تغيير النظام السياسي للبدء في إعادة مكانة تونس في المجتمع الدولي.
تونس - تحيل قضية الجمود، الذي وصلت إليه الحياة السياسية في تونس والصراعات بين الأحزاب المهيمنة على المشهد، والتي عطلت شؤون الشعب ودفعت مكانة البلاد للوراء، إلى مسألة شديدة التعقيد تتمحور بالأساس حول إمكانية تغيير النظام السياسي الحالي الذي أثبت فشله.
وهذا الموقف يتبناه رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصيد خلال الفترة الأولى من حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، حيث أشار في حوار مع “العرب” إلى أن التونسيين مطالبون اليوم بإرساء نظام رئاسي معدل وذلك وسط دعوات متصاعدة لإجراء حوار وطني ينتشل بلاده من أزمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويعتقد الصيد، الذي تقلد رئاسة الحكومة بين فبراير 2015 وأغسطس 2016، أن دستور 2014 وهو دستور صادق عليه آنذاك المجلس الوطني التأسيسي، الذي هيمن عليه الإسلاميون (حركة النهضة) لم يعد مناسبا، ومن الضروري تغييره، مشددا على أن الحوار لوحده قادر على إنهاء الأزمة التي تمر بها تونس.
والصيد البالغ من العمر 71 عاما، شغل مناصب حكومية عديدة في تونس، على غرار وزير للداخلية بعد ثورة 14 يناير 2011، قبل أن يصبح على رأس أول حكومة بعد انتخاب السبسي رئيسا، وقبل ذلك كان شغل منصب مدير ديوان وزراء الفلاحة بين 1993 وإلى غاية 1997 حيث تقلد مدير ديوان وزراء الداخلية لغاية 2001 ليصبح وزير دولة (كاتب دولة) لدى وزير الفلاحة.
وبالرغم من ابتعاده عن الساحة السياسية، فإن الصيد لديه رؤية تبدو واقعية وتتمثل في الحوار باعتباره الملاذ الوحيد لإخراج تونس من مأزقها الحالي، حيث تتخبط البلاد في أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة تزامنت مع حالة تشرذم سياسية أعقبت الانتخابات التشريعية في 2019.
وهذه الشخصية، التي عاشت تجربة توافق السبسي مع الإسلاميين، تؤكد على أن المطلوب اليوم في بلادها أن يلتقي الجميع على طاولة الحوار، وأن يهتدي الجميع لتوافقات جديدة قبل انزلاق البلاد إلى مربعات أخرى.
وليس للرجل، الذي كان ثاني وزير داخلية بعد الثورة بعد إقالة فرحات الراجحي في عام 2011، أي تجارب سياسية أو حزبية رغم أنه تقلّد العديد من المواقع الحكومية في بلاده حتى في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، حيث نأى وقتها الصيد عن الانتماء إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل.
تغيير النظام السياسي
تصاعدت منذ فترة الدعوات إلى تغيير النظام السياسي في تونس كحل قد يكون الأخير للأزمة، التي تمر بها البلاد، حيث يعد النظام القائم برلمانيا معدلا وهو نظام كرس انقساما سياسيا غير مسبوق في البلاد.
ويوصف المشهد السياسي في البلد، الذي يُحيي بعد أيام مرور 10سنوات على الانتفاضة الشعبية، التي أطاحت ببن علي، بـ”المتعفن”، وذلك مع احتدام المعارك السياسية ما جعل دعوات الحوار الوطني تتكثف لمنع المزيد من الاحتقان.
لكنّ هذه الدعوات لم تكشف بعد عن المسارات التي يمكن انتهاجها في معالجة الأزمة التي تمر بها البلاد غير الدعوة إلى تغيير النظام السياسي دون تقديم نموذج يتماشى والمشهد التونسي.
وفي هذا السياق، يقول الصيد “يجب أن تكون هناك توافقات بين الرئاسات الثلاث (رئيس الجمهورية والبرلمان والحكومة) لكي يكون حوارا ناجحا، إذا هؤلاء لم يتفقوا فلماذا نقوم بحوار؟ لا يمكن إجراء حوار بغياب أحد هؤلاء المسؤولين؛ عليهم أن يجدوا تفاهمات”.
ويوضح الصيد، الذي شغل منصب مستشار لدى رئيس الحكومة حمادي الجبالي بين عامي 2012 و2013 لـ”العرب”، أن الإقصاءات التي ينوي البعض القيام بها لا يمكن أن تعطي نتيجة، ولذلك يجب أن يشهد أي حوار مشاركة المنظمات الوطنية والسلطة وغيرهما لأن الإقصاء لا ينتج إلا الفشل.
السيرة الذاتية للحبيب الصيد
- مستشار خاص لدى السبسي بين أغسطس 2018 وأكتوبر 2019
- رئيس حكومة بين فبراير 2015 وأغسطس 2016
- وزير الداخلية في عام 2011 خلفا لفرحات الراجحي
- وزير دولة (كاتب دولة) لدى وزير الفلاحة في 2001
- مدير ديوان وزير الداخلية من 1997 إلى غاية 2001
- مدير ديوان وزير الفلاحة بين 1993 وإلى غاية 1997
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل، المركزية النقابية ذات النفوذ الواسع في البلاد، قد دفع بمبادرة للرئيس قيس سعيد من أجل رعاية حوار وطني يتطرق للمعضلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ولئن نصت المبادرة في جانبها السياسي على ضرورة مراجعة النظام الانتخابي بما يشمله من تمويل الأحزاب وغيرها من النقاط، فإن العديد من الأطراف تطالب بتغيير النظام السياسي والدستور كأولوية.
وشدد الأمين العام لاتحاد الشغل نورالدين الطبوبي الثلاثاء، على أنهم توجهوا إلى قيس سعيد باعتبار مكانته ومنتخبا من الشعب. وقال في حوار مع وكالة تونس أفريقيا للأنباء الرسمية “إن تسمية أعضاء هيئة الحكماء يخضع إلى التوافق حول مقترحات يقدمها المشاركون في الحوار الوطني”.
وذكر أن المبادرة تنص على أن يشمل مجال اختصاص الأعضاء الخمسة بهيئة الحكماء اختصاصات مختلفة تهم المجالات الاقتصادية والاجتماعية والقانون الدستوري، موضحا أن اختيار الاختصاصات المذكورة يهدف إلى بلوغ توافقات بالاستناد إلى توصيات علمية.
ويرى الوزير المستشار الخاص لدى السبسي بين أغسطس 2018 وأكتوبر 2019، الذي يشدد على أنه قد يعود للعمل الحكومي وتقلد مناصب في الدولة إذا ناداه “الواجب الوطني”، أن مبادرة الاتحاد قد تعطي “نتائج طيبة”، لكنه انتقد في المقابل اشتراطه تكليف لجنة حكماء مستقلين، قائلا إن “هذه المبادرة نصت على إحداث لجنة حكماء، إذا لم يكن الجميع ممثلا في هذه الهيئة. الحكماء موجودون في كل جهة، حتى الشخصيات المستقلة تختلف في آرائها ويمكن أن تكون رغم كونها غير متحزبة لها مواقفها وميولاتها وعلاقاتها كما الاتحاد”.
ويؤكد الصيد، الذي يعتبر شخصية مستقلة لا تنتمي إلى أي حزب سياسي، على أن بلاده “اختارت أصعب نظام سياسي مع الأسف، فالدستور تمت صياغته على أساس ترضية الجميع وفي نهاية المطاف توصلنا إلى أنه لا يخدم شعبنا.. هذا الدستور الذي اقتربنا من تأليهه وجعله أحسن ما أخرج إلى الناس”.
ويؤيد هذا السياسي، الحاصل على البكالوريوس في العلوم الاقتصادية وعلى ماجستير في الاقتصاد الفلاحي من الولايات المتحدة، بشدة فكرة إرساء نظام رئاسي معدل “لكي لا نفسح المجال للرئيس كي يطغى، هذا النظام الذي نشهده الآن هجين وهو ليس رئاسيا ولا برلمانيا ودواليب الدولة معطلة الآن وتتضارب والرئيس يقول إنه تم انتخابه بصفة مباشرة والبعض يقول إن ذلك يعطيه صلاحيات أكثر من الصلاحيات الموجودة في الدستور، لكن ذلك ليس صحيحا بالمرة”.
ولأن الرجل يشعر بمدى حاجة الشعب إلى أن يتحمل السياسيون مسؤولياتهم تجاه الدولة، فهو يرى أنه من الضروري الانتهاء من السجالات السياسية والالتفات إلى مشكلات الناس، فالفقر اجتاح البلد والكل انصرف إلى مشكلاته السياسية الخاصة وهذا ليس حلا ويجب أن يدركوا أن الخطر يحدق بتونس.
تجربة التوافق
مع دفع اتحاد الشغل بمبادرة لإجراء حوار وطني في تونس، تصاعد الحديث عن إمكانية تكرار تجربة التوافق بين مختلف مكونات المشهد السياسي وحتى المجتمع المدني وغيرهم، كما حدث بعد الحوار الذي أُجري في العام 2013، والذي رعاه الاتحاد التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والرابطة التونسية لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين.
وفي تعليقه على هذا السيناريو، الذي تستبعده أوساط تونسية بعد أن أبدى قصر قرطاج الرئاسي تجاهلا لدعوات الحوار، يقول الصيد إن تجربة التوافق كانت فيها العديد من النواحي الإيجابية كما النواحي السلبية العديدة، أبرزها أن هناك أطرافا تظن وتروج أنها هي من هندست هذا التوافق وأنجحته.
ويشير في حديثه إلى كلّ من حركة النهضة واتحاد الشغل كذلك وعمادة المحامين أيضا وحتى حزب نداء تونس، الذي أسسه السبسي. وهنا يتوقف عند نقطة مهمة ويؤكد أنه “يجب أن يكون أي حوار يصب في أمر واحد وهو إنقاذ البلد لا لمعارك الزعاماتية”.
ومؤخرا تفاخرت حركة النهضة الإسلامية بما أنجزته خلال تجربة التوافق مع نداء تونس منذ العام 2014، وذلك في سياق مواجهتها مع سعيد وأحزاب أخرى على غرار الدستوري الحر. وهنا يتساءل الصيد حول استفادتها من ذلك التوافق.
ويقول “هي اليوم تعيش وضعية شبيهة بوضعية عاشها نداء تونس والأخير وضعيته تحسنت، لكن ما يحدث داخل النهضة اليوم لا ينبئ بخير لمستقبلها فأين استفادت؟”، موضحا أن الجميع خاسر في إشارة إلى هذه “المزايدات” وأكبر خاسر هي تونس. واستطرد يؤكد “جميعهم يفكرون في مستقبلهم هم، في مناصبهم وليس في الوطن وهذا مؤسف”.
وقد ألقت تلك السجالات والصراعات السياسية على الدبلوماسية التونسية، التي باتت رهينة المزاج السياسي في الدولة، وهنا يعتبر الصيد أن الدبلوماسية التونسية تعاني من العديد من الصعاب وأن هناك أخطاء ارتكبت في عهدة قيس سعيد قائلا “حاول رئيس الجمهورية أن يقوم ببعض الأشياء. العمل الدبلوماسي يتطلب أناسا تعرف دواليب الدولة والدبلوماسية وعاشت تجارب لكي تقوم بعملها على أحسن وجه”.
وتابع في حواره لـ”العرب”، “للأسف، ما نراه هو أن لتونس إطارات وكفاءات ممتازة دبلوماسيا لكن هناك قرارات يقع اتخاذها بصفة غير مدروسة ما جعلنا في بعض الأحيان نظهر بمظهر ضعيف جدا دبلوماسيا، بالرغم من أن لتونس تاريخا مجيدا في الشأن الدبلوماسي، وما قام به الزعيم الحبيب بورقيبة في فترة حكمه رغم أننا بلد صغير، كان عملا جبارا وحاسما، وتقع استشارته وأخذ رأيه في مسائل كبرى على غرار تكوين الاتحاد الأفريقي وغيرها، لقد كان له دور فعال وهذا ما لم نره في الفترة الأخيرة”.
ويرى الصيد أن بلاده لم تعرف كيفية استغلال حيازها على مقعد غير دائم بمجلس الأمن الدولي قائلا “لنتفق أولا أن حصولنا على هذا المنصب كان ثمرة عمل قام به الرئيس الراحل قائد السبسي وحكوماته (..) لكننا لم نحسن استغلال ذلك بسبب الارتباك والقرارات غير المدروسة مرة أخرى؛ تتم إقالة فلان وتعويضه، إنها قرارات غير مدروسة‘”.
مأزق حكومة المشيشي
بموازاة تأزم المشهد السياسي في تونس، تعيش بعض الولايات (المحافظات) على صفيح ساخن، حيث يتعطل الإنتاج في العديد من مواقعه في محاولة من بعض المحتجين للضغط على حكومة هشام المشيشي، التي تسلمت مقاليد الحكم منذ أشهر.
وتضغط العديد من التنسيقيات واللجان، التي تشكلت مؤخرا، على المشيشي من أجل إرغامه على الاستجابة لمطالب توصف بـ”التعجيزية” في خضم الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد.
واستنسخ هؤلاء تجربة الكامور، التي قام بها عدد من المحتجين الذين أوقفوا إنتاج البترول في ولاية (محافظة) تطاوين جنوبي البلاد لفترة طويلة ما جعل الحكومة الحالية تخضع لهم بالاستجابة لمطالبهم كاملة.
لكنّ المعضلة الأكبر التي يواجهها المشيشي، وفقا لمراقبين، تتمثل في ابتزاز حزامه البرلماني له، والذي تقوده حركة النهضة الإسلامية وحزب قلب تونس، إلى جانب ائتلاف الكرامة الشعبوي والإسلامي.
ويقول الصيد “إن المشيشي في وضع لا يُحسد عليه وضع مأزوم وتسلم تركة ثقيلة ورثها من الحكومة السابقة والحكومة التي سبقتها، هم (فريق المشيشي الحكومي) يقومون بمبادرات لفض هذه الإشكالات وأتمنى لهم النجاح لكني لست متفائلا بشأن مقومات ذلك لأن الفريق الذي تم اختياره ليست له خبرة وهناك العديد من العقبات التي تعترضه من بينها التجاذبات السياسية”.
وبخبرته المتواضعة في مجال السياسة، أمكن للصيد أن يكوّن فكرة عمّا يحصل في تونس، ومع أنه متيقن من أن لهذه الحكومة برنامج عمل، لكن العقبات متزايدة اليوم من بينها أن هناك شخصيات وطنية لها مواقف سلبية منها ومن شأنها أن تعيق عملها.
وبالنسبة للصيد فإن المناخ الذي وجدت فيه حكومة المشيشي نفسها، الذي يتسم بالابتزاز وغيره، لا يحفز على العمل قائلا “إلياس الفخفاخ كانت نيته طيبة وهو رجل نظيف وتابعنا كيف تمت إزاحته، لكن الظروف تختلف هذه المرة لأن المشيشي يواجه عقبات تتعلق بالتنمية والتشغيل، وأيضا بالابتزاز، ووجد نفسه أمام تعهدات سابقة على غرار ملف الكامور والميزانية”.
وختم الصيد حديثه بالقول “أنا أنصح المشيشي بالصبر وأن يحاول أن يكون مجمعا ولو أن هذه مهمة الرئيس قيس سعيد لكن دوره أيضا أن يجمع لأن هناك تركة اقتصادية واجتماعية ثقيلة لا يمكن حلها بالمزيد من الخلافات سواء مع رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان، الذي يقول إن لحزبه غالبية برلمانية، المرحلة تتطلب نكران الذات وعدم السعي للقطيعة مع أي طرف”.