الثقافة في زمن كورونا

قد يَعتبر البعض الحديث عن الثقافة خلال هذه اللحظة الإنسانية المؤلمة ترفا وغير لائق بالطابع الدرامي لهذه اللحظة. غير أن الأمر لا يبدو كذلك. على الأقل كما تؤكده حالة الصين، منبع شبح فايروس كورونا الذي يأتي يوميا على مئات الضحايا. إذ يبدو مدهشا أن يستطيع الناس التأقلم مع الوضع الجديد عبر إقبالهم على المنتوج الثقافي، كتعبير عن استمرار الحياة. وذلك في خضم لحظة استثنائية، يتم خلالها الحجر على مدن بكاملها وعلى آلاف الناس، الذين يجدون أنفسهم مجبرين على الإقامة داخل بيوتهم لأيام لا يعرف أحد متى تنتهي.
والأكيد أن التهديد الذي يشكله الانتشار السريع لوباء كورونا لا يمكن، في جميع الأحوال، أن تنجو منه بعض الصناعات الثقافية التي تقوم على العرض المباشر. ولعل ذلك ما يعكسه، على سبيل المثال، إلغاء المعرض الدولي الفني باسِل، الذي كان من المفروض أن تحتضنه هونغ كونغ، والذي يشكل أحد أهم المواعيد الفنية على مستوى العالم.
كما يبدو طبيعيا أن يمس نفس التهديد السينما التي تشكل أحد مناطق قوة الصناعات الثقافية بالبلد، والتي كان من المفروض أن تجعل منها وتيرةُ تطور أرقام معاملاتها، الأولى، في أفق نهاية السنة الحالية، على مستوى الكون، مع إمكانية تجاوزها لهوليوود بتراكمها الكبير. وهي الوتيرة التي أبطأها، وإن كان ذلك بشكل مؤقت، إغلاق عدد من الأستوديوهات الكبرى والعديد من القاعات السينمائية، خصوصا خلال أيام العيد. وسيكون من نتائج ذلك تراجع مداخيل القاعات، التي جرت العادة أن تشغل أرقامها، خلال هذه الفترة، ثلاثين في المئة من مداخيل الصين خلال سنة بكاملها.
ولن يتوقف أثر التهديد هنا، إذ ستصل آثاره إلى بلدان أخرى كانت تعوّل على سوق السينما الصينية وعلى حجمها الكبير الذي يتجاوز الستين ألف شاشة سينمائية. ومن ذلك على سبيل المثال تأجيل ديزني لعرض فيلم “مولان” الذي تطلب إنجازه ميزانية ضخمة جاوزت المئتي مليون دولار.
كما يبدو واردا، في نفس السياق، أن تصل التهديدات إلى بقية الصناعات الثقافية القائمة على العرض، ومن ذلك المسرح والفنون الحية، والمتاحف وأروقة الفنون التشكيلية. وكلها كانت إلى حدود اللحظة موئلا للاستثمارات الكبرى. وذلك حال سوق الفنون التشكيلية، التي كانت تتصدر، إلى حدود هذه السنة، المشهد الكوني، بمداخيلها التي تشغل أربعين في المئة من مداخيل الأسواق العالمية، حسب المكتب الوطني للإحصائيات الصينية. وذلك بفضل التقليص من الرسوم الجمركية ودعم التظاهرات الكبرى في المجال.
في مقابل هذه المناطق المعتمة، التي تخص المنتوجات الثقافية القائمة على العرض المباشر، يبدو أن الصينيين يملكون القدرة على فتح نوافذ أخرى لممارسة حياتهم الثقافية، وإن كان ذلك من وراء جدران الحجر الصحي. ويبدو مذهلا، على سبيل المثال، أن تشهد الأيام الأخيرة ارتفاعا يهم بشكل خاص المنتوجات الثقافية، سواء القائمة منها على الاستعمال عن بعد، أو التي يتم تحميلها عن طريق النت.
ولعل ذلك ما يهم، على سبيل المثال، استهلاك ألعاب الفيديو. إذ سجل تحميل الألعاب مستوى قياسيا خلال الفترة المتزامنة مع انتشار وباء كورونا، وذلك بزيادة تصل إلى الثلاثين في المئة مقارنة مع نفس الفترة خلال السنة السابقة، كما تؤكد ذلك أرقام معهد نيكو المختص في المجال. ولعل هذا ما يشكل امتدادا لتجذر ألعاب الواقع الافتراضي ضمن ثقافة وعادات الشبان الصينيين. وهو ما يعكسه انتقال عدد مستهلكي هذه المنتوجات من الستين مليونا إلى الخمسمئة مليون مستهلك في فترة زمنية لا تتجاوز السنة الواحدة. ويجعل ذلك من الصين الأولى على مستوى العالم في المجال، من خلال حيازتها على ثلث المداخيل التي يتم تحقيقها على مستوى الأسواق العالمية.
وسيمتد نفس التطور إلى بقية المنتوجات الثقافية القائمة على التحميل، ومن ذلك الكِتاب الإلكتروني والموسيقى. وهما المجالان اللذان يحتفظان بحضورهما الخاص، حيث ناهز عددُ مستهلكي الكتاب الإلكتروني، قبل سنة فقط، الأربعمئة مليون مستعمل.
كما يبدو طريفا أن تتأقلم الكثير من القنوات التلفزيونية المختصة في برامج الواقع أو في مسابقات الغناء، ومنها قناة هونان الشهيرة، مع الواقع الجديد، عبر إمكانيات تسجيل المَشاهِد بشكل فردي، من داخل البيوت أو في الأستوديوهات.
لن يتوقف استغلال التكنولوجيا هنا. إذ أن كثيرا من الجامعات الصينية قد أطلقت برامجها للتعليم عن بعد، حيث يمكن لأي طالب أن يواصل دروسه انطلاقا من بيته، وإن كان خاضعا للحجر.
ولا يبدو كل ذلك غريبا. إذ إن الصين تمتلك على الأقل مؤهلين قد لا تستطيع الكثير من الدول الجمع بينهما. الأول يكمن في توفرها على بنية هامة على مستوى تكنولوجيا التواصل والمعلومات التي تبقى مفتوحة على كل التطبيقات الممكنة، بما فيها الثقافية منها والتعليمية وغيرها. وهو ما يعكسه، على سبيل المثال، العدد الهائل على مستوى مستعملي النت بالبلد.
فيما يرتبط المؤهل الثاني برهان الصين على الثقافة، سواء باعتبارها صناعة مدرّة للأرباح أو الوسيلة الأفضل لدخول العالم. وهو ما تعكسه على الأقل الميزانية التي خصصتها الدولة للثقافة، خلال السنة السابقة، والتي تقارب التسعمئة مليون دولار. وذلك في الوقت الذي ما زالت فيه الكثير من وزارات الثقافة ببلداننا تقتات على فتات ما يتبقى.
كنتُ في الصين قبل أشهر كأستاذ زائر بكلية الدراسات الشرق الأوسطية ببكين، وهي التي كونت العشرات من سفراء البلد ومن باحثيه ومترجميه. وفوجئت بالتواضع الشديد لبنيات وتجهيزات قاعات دروس الكلية، بخلاف مظاهر الثراء الفاحش الذي تحرص عليه الكثير من مؤسسات بلداننا، سواء الغنية منها أو الفقيرة. فهمتُ حينها أن الاستثمار الحقيقي يجب أن يهم الإنسان وليس الجدران. أما الثقافة، فإذا توفرت مقوماتها وشروطها الحقيقية، فيمكن أن تمثل شكلا من أشكال مقاومة غول كبير لا يرحم، اسمه كورونا!